في ذكرى رحيله.. محطات في حياة نجيب الريحاني

نشرت جريدة الفنون في عددها الصادر عام ٢٠٠٢ مقالة بعنوان نجيب الريحاني نجيب الريحاني.. أمير الكوميديا ، بقلم مجدى فرج.
يعيد موقع مباشر ٢٤ نشر هذه المقالة بمناسبة ذكرى رحيل امير الكوميديا الريحاني،إلى نص المقالة.
نبذة عن الريحاني مؤسس الكوميديا العربية
إن كوميديا الريحاني تعد حالة من الإلتفاف الفكري والفلسفي نحو عقاب الغنى الإقطاعي على بخله أو الشيخ الوقور على تصابيه هذه الحالة فرضتها الظروف الإجتماعية القلقة التي عاشها الفنان في مطلع هذا القرن حيث القلاقل الإجتماعية والثورات الطاحنة وأهمها على الإطلاق ثوره 1919 والأزمات الإقتصادية.
وأهمها أزمة 1929 هذه القلاقل والأزمات فضلا عن تركيبته الطبقية في حالة دون حدوث ذلك تصادم المروع بينه وبين المجتمع فكانت الكوميديا بأشكالها المبدعة وتنقياتها الخلاقة هي الحل الناجح لتمرير مجمل هذه الأفكار وإستقبالها بمرح وسعادة بالغين ولقد ساعده في ذلك أن الحياة الليبرالية في مصر مع مطلع هذا
القرن.
كانت ترحب بوجوده بجانب تراجيديا “جورج أبيض “على المستوى الفني وكانت ترحب بوجودها على المستوى الطبقي بجانب أثرياء الحرب والإقطاعيين والرأس ماليين الوطنيين والسماسره والسماكين وعلى الرغم من كل ذلك من كل هذه الأشواك والألغام التي صار فوقها الريحاني فإنه استطاع أن يحافظ على المسافة الجمالية راسخة في الكوميديا بين المتفرج والحدث المسرحي إدراكا منه.
ويحثه الفني اليقظ النسف هذه المسافة يحول العرض برمته إلى تراجيا ومأساه قد لا تحمد عقباها إما الحفاظ على المسافة فهو حفاظ على قدره عقل المتفرج اليقظ على التقاط المفارقة الكوميدية في الموضع الصحيح والظرف الصحيح.
لقد صاغ الريحاني بمسرحه المبدع عقدا إجتماعيًا يؤسس لبناء مدينة فاضلة يجتهد فيها الفقير بمحبة الغني ويمارس فيها الغني الرحمة والعطاء الفياض في محبة الفقير أنه إعتدال تقتضيه طبيعة الشعب المصري وتفرضه كذلك قوانين الواقع الإجتماعي في أثناء الأزمات التي المت بالوطن منذ مطلع هذا القرن حتى ثوره يوليو 1952.
الريحاني والتجسيد الواقعي للشخصية من خلال أعماله
الواقع الإجتماعي كما أنها لحظة بسيطة في عناصرها المكونة لها ثراء ساذج يقتنص من خلال واقع إجتماعي مهترئ وعلى نحو ما يدين الريحان لذلك الثراء الساذج فإنه بالأهمية نفسها يدين الإختلالات الإجتماعية التي طعنت هذا العمده في ثروته وأحلامه تلك الأحلام التي نكتشف حققها بسبب ضيق أفقها أن الريحاني يشرح المجتمع تشريحا واضحا جريئًا لا لبس فيه ولأن الكوميديا هي أم السياسة بمعنى أنها رد الفعل الحاسم تجاه الفعل السياسي الغاشم المختل.
فقد كان موقفه الفكري صحيحا بأدانه طرفي المأزق الكاريكاتيريا في عالم كشكش بك في مرحلة متأخرة من إبداعه المسرحي يسوق الريحاني أبنية درامية أكثر تعقيدا أو تركيبا من ذلك العالم الدرامي الذي صاغه في كشكش بك وهو ما اتضح بجلاء في أعماله المسرحية بدءا من “الجنية المصري” حتى آخر أعماله فضلا عن أفلامه الإجتماعية.
وقد إنشغل في هذه المرحلة بمناقشة مشاكل الطبقة المتوسطة في المدينة التي تعد الطليعة الثقافية للمجتمع لقد فتحت له المدينة أبوابها ومشاكلها يعني هل منها ما شاء له الهوى والجمال حتى أنه صاغ بالفعل دراما منضبطة القواعد تتكون من حدث رئيسي ترفضه مجموعة من الأحداث الفرعية وقد لعب الريحان لعبته الإبداعية تأسيسا على ألعاب “الفوتيفول” الفرنسي دون مطابقة ساذجة ذلك أنه أكتشف ما يعادل الثلاثي الفرنسي في مجتمع المدينة المصرية
وإن اختلفت الأشكال والأبعاد الشخصية وتنوعت الهموم الإنسانية وطبيعة مكونات الشخصية فالمرأة العاشقة المعشوقة التي صاغها الريحاني دراميا هي مصرية الجوهر فقد صيغت بتخطيط فني وفكري عمدي كذلك العاشق والزوج ومجمل الأنماط والنماذج البشرية التي تعرض لها بالإبداع ولم يتوقف عند حدود الثلاثي العاشق في همه العاطفي بل صنفهم تصنيفا طبقيا.
حتى يمنع هذا الثلاثي بعدا إجتماعيا أشمل وتكون الكوميديا الناتجة من المفارقة الدرامية الخاصة بهم أكثر شمولية واوسع مدى فالزوج يمكن أن يكون غبيا والعاشق صلعوقا فقيرا متمردا على ذلك الثراء الغبي والمرأة قد تنزع بطبيعتها إلى صياغة التوازن الإنساني بين أحلامها المتدفقة وواقعها المتلازم من دون أن تفقد السيطرة على وجودها.
والذي يؤدي بها إلى الإدانة الأخلاقية والمبدع في هذا الثلاثي أن الريحاني صاغهم ضمن حالة إرجوازية نشطه إنفعاليا ودراميا ذلك أنه هو نفسه إمتداد لفنون خيال الظل والإرجواز بما فيها من مبالغات فنية تعد جزءا من النسيج الفني ذاته بهذه الخبرة الإبداعية استوعب الريحان لذلك التناقض القاطع بين النماذج الإنسانية المتناقضة فهو الذكي في مواجهة الأغبياء البشوات وهو الفقير المهان الذي تنزل عليه الثروة فلا يقابل بالإهانة مثلها بالإحسان فيرتقي بذلك درجات في سلم القيم السلوكية.
وإن ساق القيم العليا عن الأغنياء الذين أهانوه كما صاغ من الروافد الدرامية ثنائيات متناقضة ومتضادة فالخدم فيهما العاشق الكاريكاتير والدلوعة التي تقلد سيدتها الهزلة والجاد المحب الولهان وجامع المال المتيم برص المال فوق بعضه هذه النماذج الدرامية المركبة هي التي فرضت عليه إهداء فنيا يتميز بالبساطة في التعبير بحكم أنه ممثل قدير يبتعد قدر الإمكان عن التشنج والتوتر والإنفعالي ففي حالة الفقر يرسم للشخصية إيطارا خارجيا دقيقا.
التعبير عن فقرها بدلة منزوعة الأزرار ملطخة ببقعة زيت واضحة للعيان ذات بنطلون قصير إلى حد اللافت للنظر ومثير للضحك وفي حالة الغنى والثراء يرتدي بدلة شيك ويتصرف كما لو أن هذه البدلة مملوءة بالبراغيث والباقي أنه يرتدي ما لا يريحه أنه في كل هذه المظاهر لا يخرج عن كونه الرجل البسيط الذي يصارع الإختلالات الإجتماعية في صلب سياقها الإجتماعي حتى وصل به الأمر إلى تثبيت هذه النماذج الفنية فهو الفقير التعيس حينا ثم الغني المحب للعالم حين آخر من دون أن يشكل هذا الثراء تغيرا في ملامح شخصيته عدلي كاسب الغنى الغبي الذي تسوق حياته زوجته أو أمه وهو طاره أخرى العجوز المتصابي.
“ماري منيب” التركية الغبية التي تثير الضحك تأسيسا على إليه عدم الفهم “ونجوى سالم” البنت الدلوعة وهكذا تقف مسرحية “الجنية المصري” التي مصرها الريحاني مع بديع خيري عن المسرحية الساتيرية توباز من تأليف مارسيل بانيول,1895 1971 على قمة إبداعاته المسرحية يقول الباحث “سمير عوض” في الجامدة بل المحاكاة المبدعة بمعنى ما يجب أن يكون عليه الواقع لقد إختار نماذجه البشرية.
وأدارا صراع بينها من دون أن تنحرف أفكاره وتتسرب في غير موضعها الصحيح وهو تقديم النموذج النقي الفاضل ياقوت في مواجهة الجهالة والتخلف والأمية وإنحطاط القيم واستطاع أن يدير هذا الصراع بشكل يفيد بالحنك الدرامية والكوميديا الراقية فبين سماك الأمي الجاهل وياقوت المتعلم توجد الكره الأرضية هي عند السماك ثابتة لكنها عند يقود دائرة متحركة هذا التناقض الأساسي يستتبعه الكثير من التناقضات الفرعية التفصيلية التي تثير الضحك.
لا سيما إذا علمنا أن ياقوت رجل متهكم بطبعه ساخر من مجمل القيم التي صنعها تراجع النموذج الإقتصادي وانحطاط التنمية الاجتماعية وتنهض الفكاهة في هذه المسرحية على مبدأ عدم التلائم الإجتماعي بين الإنسان الطيب الساخر والبيئة الإجتماعية المخالفة لبيئته الأصلية وهو تناقض تعدد فيه النماذج الفنية بشكل ثري خصب بعيدا عن ألعاب الفارس وتوابلها التي برع فيها الريحاني وسيطر عليها تماما.
تراكمات الخبرة الإبداعية للريحان هي التي طورت الأداء الفكاهي عنده من حدود النسق إلى الكاتيركاير في كشكش بك إلى مرحلة التصادم الفكاهي بين الجهل والمعرفة الجشع والترفع عن الدنايا وقد أدى ذلك بالضرورة إلى صياغة تنكيك التصاعد الأداء الدرامي في الموقف المأذون.
فالفقير التعيس يظله هزء ومسخره للأغنياء حتى تنزل عليه ثروه فينعكس الوضع ويتم الإنقلاب في الوضع الطبقي والدرامي معا ويظل الموقف الجديد في تصاعده حتى نصل إلى قمته بالموعظة الأخلاقية عند الريحان هي مزيج متناغم من بقايا المسرح الديني الأخلاقي في العصور الوسطى وفنون أرجواز حواري القاهرة حتى أصبحت الموعظة الأخلاقية جزءا حيويا حاسما في البناء الهندسي للدرامة وفي إشاعة الضحك والمرح في الخواتيم.
فلسفة الكوميديا في التمثيل
أغلب الدراسات التي إنشغلت بعملية الضحك تقرر أن الضحك عدوا للأنفعال العاطفي وهو تصور قاصر عن إدراك ميكانيزم الضحك حقا فإن المفارقة الكوميدية تبدأ بالعقل غير أن العاطفة تدخل بشكل مباشر أو غير مباشر لتغذي ذلك الإدراك العقلي فالضحك على بخيل موليير أو تارتوف” أو غيرهما من شخصيات الكوميديا في تاريخ الدراما إنما هو تتويج لإنفعال عاطفي, أقرب إلى العقلانية يتجه هذا الإنفعال.
إما ضد الشخصية إذا كنا نود معاقبتها أو معها إذا كنا نود معاقبتها أو معها إذا كنا نود تأكيد وجودها كقيمة رفيعة ومعاقبة أضدادها ,في هذا الحدث بالذات أو في غيره من الأحداث واتجاه العاطفة هذا قد نصفه بأنه معاقبة البخيل على بخله أو تارتوف على سفاهاته أو الشيخ الوقور على تصابيه ألخ .
تكمن فلسفه الضحك في هدفين أساسيين الأول ، معاقبة المنحرف إجتماعيا بهدف تقويمه .
والثاني الوصول إلى التوازن النفسي في مواجهة اختلالات الأنساق الإجتماعية التي تكشفها الدراما, هذان الهدفان يتحققان أكمل تحقيق ممكن في لحظة الوجود الجمعي, بين الجماهير, ولا يمكن أن تؤدي الكوميديا وظيفتها الإجتماعية الحقيقية من دون مشاهدين الجمهور.
المشاهد هو العنصر الحيوي الفاعل في تحقيق الكوميديا لوظيفتها الإجتماعية وهو الذي يحقق الشرط الأساسي للكوميديا وهو الضحك ولأن الضحك عدوا تسرى مسرى النار في الهشيم فإن تأثير الكوميديا بهذا الشرط يكون حاسما وسريعا ومؤثرا بالضرورة .
بهذا المعنى فإن الضحك هو نزوع أخلاقي نحو تصحيح الإنحرافات الأخلاقية والسلوكية المرتبطة بالجماعة الإنسانية لهذا فإننا نقرر بما لا يضع مجالا للشك أن الكوميديا هي فعل سياسي في المقام الأول فبالكوميديا يستطيع الفنان أن (يمسخر) الباشا ويقوم إعوجاجه ويصحح الأداء البيروقراطي للموظف الغبي المتزمت ويحقق موقفا ثوريا تنويريا ضد القهر والتسلط وهكذا.
في أعماق شخصية الفنان نجيب الريحاني
عشق الريحاني فن التراجيديا ورحل عامدا إلى هذا العالم ساعيا إلى مكان له تحت شمسها بجوار “جورج أبيض “غير أن مكوناته الشخصية حالت دون تحقيق هذا الهدف الأسمى وأودت به رغم أنفه إلى عالم الكوميديا
يقول الباحث “سمير عوض” في مقدمة مسرحية” ريا وسكينة” لكن الريحان لم يكن يستطيع أن يخرج جزوة الكوميديا الكامنة في أعماقه فحين أسند إليه دور” ملك النمسا” في مسرحية” صلاح الدين الأيوبي” التي قدمتها فرقة “جورج أبيض عام 1914 “م” نجد أن الريحاني يطلق نفسه على سجيتها فيطفو فجأة الجانب الهزلي في شخصيته ويشرع في تقديم “ملك النمسا” في سورة هزلية مخالفا بذلك ما نص عليه الإخراج.
ويروي الريحاني أنه أغلق على نفسه باب غرفة الممثلين وأخذ يجرب عقاقير المكياج في وجهه حتى أتخذ سورة الإمبراطور” فرانسو جوزيف” بعينه ولحيته المتدلية على جانبي وجهه إلى أسفل ذقنه.
جورج أبيض
وما كاد الريحاني يظهر على المنصة حتى ضج المتفرجون بالضحك بينما كان الواجب أن تنحبس أنفاسهم لمقدم قلب الأسد “جورج أبيض” غاضبا متوعدا وبلغت فكاهية الموقف مداها إذ مكث الريحاني صامتا في هيئته الغريبة بينما ذهبت صيحة” صلاح الدين” المشهورة هباء حين قال ويل لملك النمسا من “صلاح الدين” أمام عاصفة الضحك التي دوت في القاعة وعندما انتهى العرض صدر قرار بفصل الريحاني بحجة عدم صلاحيته للتمثيل هذه الحادثة تكشف لنا طبيعة وموهبة الريحاني وقدرته الشخصية التي حباه الله بها فهو لم يتعمد إضحاك الناس بقدر ما يضحكون من مجرد حضوره المسرحية الطاغي المرح.
ولما يكن قد نطق حرفا بعد من هنا نبدأ رصد تطور تقنيات الفكاهة عند هذا الفنان اللامع انشغل الريحاني برصد الواقع الإجتماعي والسياسي من خلال الشخصيات الدرامية التي تقمصها وتعد” كشك بك العمدة” الثري الساذج أولى ألعابه الكاراكايتريه ثم استكمل بعد ذلك تقمص العديد من النماذج الإجتماعية كالموظف الأمين الفقير الصعلوك الذي يتصادم مع البناء الفوقي للمجتمع كاشفا الإختلالات الجوهرية في المجتمع وفي الأخلاق صاغ الريحاني.
شخصيه كشكش بك ضمن إطار ما يمكن أن نسميه كاريكاتير الشخصية والذي يحدده “الدكتور محمد عناني” في كتابه فن الكوميديا على النحو الآتي مثلما يركز الرسام على أحد ملامح الشخصية يلجأ الكاتب إلى تكبير خاصية من الخصائص النفسية التي يجعلها تطغى على سائر السمات التي تهبها التوازن والإستواء فكأنما هو يقدم إلينا حالة تضخم مرضى لعنصر نفسه قد ينعكس على السلوك أو في الأفكار أو في المشاعر أو في العلاقات القائمة على هذه جميعا .
فن كاريكاتير الشخصية
ومن ثم فنحن نواجه في كاريكاتير الشخصية إهتزاز النسب بين عناصر الشخصية نتيجة لتكبير خصوصية النفسية بعينها وتضخيمها أكثر مما ينبغي هذا الإختلال في نسب شخصية كشكش بك واضح وضوحا ناصعا فهو عمده ريفي ثري إلى حد التخمة بسبب بيع قطن ضيعته وفي المقابل يتميز بسذاجته المفرطة إلى حد البلح في مواجهة المدينة بأضوائها ولياليها ونسائها وآلياتها وتكون النتيجة المنطقية أن يقع هذا العمده.
وتتبدد أمواله التي جمعها بعرق الجبين في ليله حمراء لا تساوي شيئا غير أن المفارقة الدرامية الكوميدية في عالم كشكش بك مفارقة بسيطة العناصر أنها مجرد مفارقة سلوقية خارجية بمعنى أنها تنشأ وتنمو وتتحرك خارج ذات العمده بتفاعل أو قلب تصادم الواقع الإجتماعي المضاد لأحلامه وتصوراته وقد تضخمت هذه اللحظة الكاريكاتبر بما يكفي لأن ندركها لأول وهله وهو تضخم يؤكد إختلالات تناسق النسب الإجتماعية بين هذه اللحظة.