محمد حبيب يكتب: الملامح الثقافية للشعوب خلال كأس العالم من منظور علم النفس الثقافي

يتبني علم النفس الثقافي مفهوم التكوين المتبادل والذي يشير إلى تأثير المجتمع والفرد كل منهما على الآخر فمن ناحية تؤثر أفعال وسلوكيات الأفراد مباشرة على المجتمع وذلك لأن المجتمع يتألف من أفراد وتترك قيم المجتمع وأخلاقه وطرائق الحياة فيه أثرًا مباشرًا على الطريقة التي يعبر بها عن نفسه فقد ظهر ذلك جليا فعاليات كأس العالم من خلال عدة ملامح ثقافية.
فظهرت نظرية هوفستد للأبعاد الثقافية بوضوح في ثقافات الشعوب المشاركة في كأس العالم وهي النظرية التي تصف آثار ثقافة مجتمع ما على قيم أعضائه ومدى ارتباط هذه القيم بالسلوك، مُنظم البطولة فقد ظهر جليًا بُعد النفور من الغموض في مقابل تحمل الغموض والأمور غير الواضحة فاختارت معايير وقواعد سلوكية صريحة وإرشادات وقوانين صارمة تعتمد عموما على الحقيقة المطلقة دون توسط والذي تمثل في رفض بعض الثقافات الأخرى للدول المشاركة والمشجعة.
وكذلك ظهر بُعد الذكورة والأنوثة والتي يتشاركون في الامتيازات الأعلى على قدم المساواة مع الرجال في المجتمعات فظهر في حفل الافتتاح نساء بدويات عربيات بالزي الشعبي يعبرن عن ثقافتهن فضلًا عن قيام بعض النساء جنبًا إلى جنب مع الرجال في دعوة غير المسلمين للإسلام أو شرح طريقة ارتداء الحجاب الإسلامي.
وظهر كذلك لدى المشجعين من أكثر من دولة بُعد الجماعية على حساب الفردية والذي يعنى اندماج الناس في مجموعات كمشجعين أو رابطة للتشجيع.
وظهر كذلك ملمح آخر وهو التوجه طويل المدى مقابل التوجه قصير المدى والذي يهتم بالاستمتاع بالحاضر والتخطيط للمستقبل ووضع الخطط للتعامل مع الازمات المحتملة في خطط المدربين والتي كانت تهدف للوصول بفرقهم للأدوار المتقدمة وعدم الاكتفاء بالفوز البسيط بل هناك من كان يسعى لكتابة التاريخ بتحقيق إنجازات كبيرة وغير مسبوقة بل الأوضح من ذلك ما سعي له المنتخب الياباني من أن حلمه في هذه البطولة هو التواجد ضمن أفضل 10 مراكز على أن يكون المستقبل لهم.
وظهر توجه التساهل (الاشباع) مقابل التشدد(الحرمان) في سعي بعض المشاركين في الإعلان عن هويتهم وإشباع رغباتهم بإظهارها كشارات المثلية أو التحايل لتداول الخمور وإخفائها داخل كاميرا تصوير.
وسعت بعض المشجعين والمشاركين للذكاء الثقافي والذي يعني قدرة الشخص على التكيف أثناء تفاعله مع الآخرين من مناطق ثقافية مختلفة، بل هناك من حاول تطبيق الذكاء الوجداني والذي يشمل فهمًا للمشاعر الذاتية ولمشاعر الاخرين في ثقافة معينة وإن كانت الدولة المضيفة قطر فشلت في كلا النوعين من هذا الذكاء.
وأفادت التقارير الصحفية والإعلامية قيام كثير من الجماهير المختلفة بإظهار الذكاء الثقافي السلوكي بشقيه اللفظي ( والذي يعني بتعديل اللهجة والنبرة) وغير اللفظي والذي يعني تعديل الإيماءات وتعبيرات الوجه وقد ظهر ذلك في تقليد ونطق اللغة العربية والمزاح باللهجة العربية والخليجية.
وظهر كذلك مفهوم التعددية العرقية وتدخل في حوار مع بعضها البعض دون الحاجة إلى التضحية بهوياتهم الخاصة الثقافة وفهم الأشخاص ولكن كان ذلك من بعض الشعوب الأوربية خلافًا لعدم رغبة كثير من الشعب القطري والعربي ذلك بزعم الحفاظ على الهوية.
ومن الملامح الثقافية للمشاركين خلال كأس العالم ظهور مصطلح فهم الأشخاص والذي يهدف إلى عملية تكوين انطباعات عن الآخرين سواء سلبية أو إيجابية..
وعن ملمح الثقافة وتقييم ذوي الجاذبية والذي طرحه أرونسون في مجلدات علم النفس الاجتماعي الشهيرة في صيغة السؤال التالي: هل يتشابه الناس في إدراكهم للجمال عبر الثقافات المختلفة وقد أجاب عنه وزملاؤه بالإيجاب مع دهشة البعض من هذه الإجابة موضحين أنه رغم الفروق عبر السلالات والأعراق المتباينة في ملامح الوجه إلا أن معظم الناس يتفقون إلى حد كبير في تمييز الوجوه الجذابة وهذا كان واضحًا جدًا فقد ركزت الكاميرات وأثناء نقل المباريات على الجماهير الجذابة، فضلًا عن اختيار كثير من ذوي الجاذبية لعمل حوارات صحفية وإعلامية معهم.
وعن الثقافة والمجاراة والطاعة كملامح ثقافية لدى الشعوب فقد ظهرت هذه الملامح عند بعض المشاركين فظهرت المجاراة والتي تعني الامتثال لضغوط اجتماعية حقيقية أو متخيلة سواء المجاراة من النوع الأول وهي مجاراة معرفية وتعني تبني الفرد لرأي الجماعة والتخلي عن رأيه لاعتقاده أن رأي الجماعة سيكون بالتأكيد أصح من رأيه الفردي والثاني المجاراة الاجتماعية وتعني أن يتبنى الفرد سلوك الجماعة حتى وإن لم يكن داخليا مقتنعا بما يفعله تجنبا لسخط الجماعة وسعيا لكسب رضا وقبول أعضائها وهو ما وضح وظهر من انقياد بعض الجماهير الأجنبية لتقاليد دولة قطر.
وظهر كذلك بوضوح ملمح التعاون إلى قدرة الناس على العمل معا من أجل تحقيق أهداف مشتركة
مثل اللعب الجماعي لبعض الفرق أو قيام اليابانيين بتنظيف المدرجات حتى في ظل نظام غياب فرض الجزاءات.
وعن ملمح الثقافة والقوالب النمطية والتي تعني الصور المعممة لدينا عن مجموعات من الناس وخاصة عن خصائصهم النفسية الأساسية أو سمات شخصياتهم والتي قد تكون القوالب النمطية إيجابية أو سلبية فقد ظهر ذلك بوضوح في نظرتنا المسبقة عن أن هناك منتخبات لا تهزم مثل منتخبات الأرجنتين وبلجيكا وألمانيا وغيرهم، ولكن هناك قوالب نمطية إيجابية تحققت وصدقت مثل سرعة وعزيمة بعض المنتخبات ككوريا الجنوبية واليابان، وكما هو معروف فإن القوالب النمطية هي نتاج العمليات النفسية العادية اليومية بما في ذلك الانتباه الانتقائي والعزو وتكوين المفاهيم والذاكرة
وعن ملمح التمركز العرقي والتعصب والذي يعني أن كل شخص يتعلم طريقة معينة لإدراك سلوك الآخرين ثم التفاعل معهم وهذه الطريقة في إدراك الآخرين وتفسيرهم هي نتيجة طبيعية للنشأة في المجتمع، فقد ظهر ذلك جليًا من الهجوم غير المبرر من جهات عدة على تنظيم دولة قطر للبطولة ليس لسبب غير التعصب والتمركز العرقي.
وعن ملمح فرض الاتصال والذي قدمه قبل سنوات عديدة قدم ألبورت في 1954 وهو افتراض شهير يزعم أن الاتصال بين المجموعات فعال بشكل خاص في الحد من التعصب وعرفت هذه الفكرة باسم فرض الاتصال في العلاقات بين المجموعات وهو ملمح لم يتحقق لأن كرة القدم لعبة جماعية ولم تحد من التعصب.
وكذلك ملمح الثقافة والعدوان والذي يمثل فيه العدوان أي فعل أو سلوك يتسبب عن قصد في إيذاء شخص آخر سواء جسديا أو نفسيا وتمارس الثقافة فيه دورا مهما في المساهمة في العدوان لأن الثقافة تسهل أو تحظر التعبير عن السلوكيات العدوانية كوسيلة للضبط الاجتماعي
ولكن يتطلب فهم العدوان والعنف فهما للسياق الثقافي الذي يحدث فيهما وهذا واضح في دراسة ثقافات الشرف والاحترام والتقدير والإعجاب والسمعة، فثقافة الشرف ليست العامل الوحيد الذي يؤثر على العدوان عبر الثقافات، فبلاشك أن العنف والعدوان من بعض اللاعبين قد يكون مرده لنيل الفوز بأي طريقة من أجل سمعة بلدهم.
وأكدت البطولة على ملمح ثقافي مهم وهو إمكان حدوث صدامات ثقافية وقد تزداد احتمالية حدوث هذه الصدمات في وقتنا الراهن حتى بعد الطفرة الهائلة في وسائل الاتصال والانتقال السهل بين الدول.
وعن ملمح التفكير والقدرات العقلية عبر الثقافات تنطوي عملية التصنيف وتكوين المفاهيم على عمل فئات من الأشياء التي تشترك فيما بينها في بعض الخصائص المشتركة عملية التصنيف أو تكوين الفئات عالمية بالنسبة لجميع البشر حيث إن إنشاء فئات عقلية يساعدنا على تصنيف جميع المثيرات المعقدة التي نتعرض لها كل يوم تعتمد اللغة اللفظية على التصنيف وتشكيل المفهوم فالكلمات هي مجرد رموز للأشياء في بيئتنا المادية وهو ما يقبله جميع المشاركين في كأس العالم من تصنيفهم لمستويات في المجموعات حسب قوتهم الرياضية في السنوات الأخيرة وتاريخهم في البطولة.
ويبدو أن بعض الفئات ذات طابع عالمي عبر مختلف الثقافات، فتعابير الوجه التي تشير إلى المشاعر الأساسية – السعادة والحزن والغضب والخوف والمفاجأة والاشمئزاز – توضع في نفس الفئات عبر مختلف الثقافات. وبالمثل، هناك اتفاق واسع النطاق عبر الثقافات بشأن الألوان الأساسية والألوان الثانوية. يبدو أن الطريقة التي يختار بها الأشخاص الألوان ويتذكرونها مستقلة إلى حد كبير عن الثقافة واللغة، وهو ما حدث في الاتفاق مثلا على ألوان المثلية الجنسية فقد أخذت على شبه اتفاق أنها تعني ذلك الأمر، وكذلك ألوان قمصان – فانلات – اللاعبين فتعكس ثقافتهم بل وحضارتهم.
هناك جانب آخر من الملامح الثقافية ألا وهو الذاكرة فقد توصلت الدراسات إلى أنه ذو طابع عالمي، ألا وهو التأثير المعروف باسم تحيز الإدراك المتأخر، والذي يشير إلى العملية التي يقوم فيها الأفراد بتعديل ذاكرتهم تجاه شيء ما بعد اكتشاف النتيجة الحقيقية. ولم تثبت الدراسات وجود اختلافات ثقافية في تحيز الإدراك المتأخر، مما يقدم دليلًا على طابعه العالمي، فقد حدث وأن غير بعض المتابعين إدراكاتهم.

وهناك نوع آخر من الإشكاليات التي تمت دراستها عبر الثقافات، ألا وهو القياس المنطقي كما هو الحال مع الاختلافات الثقافية الأخرى في اكتساب المعرفة والفكر، تبين أن القدرة على تقديم الإجابة الصحيحة للإشكاليات اللفظية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعليم المدرسي. لم يستطع الأفراد الأميون بشكل عام، والذين ينتمون إلى مجتمعات تقليدية تقديم إجابات للقياسات المنطقية والتي تحتوي على معلومات غير مألوفة (كل الأطفال يحبون الحلوى، سارة طفلة، إذن ….)، يمكن للأفراد من نفس الثقافة بل وحتى من نفس القرية والذين حصلوا على سنة واحدة في التعليم أن يقدموا إجابات صحيحة، وهو أمر ينطبق تماما على كأس العالم فمنتخب المغرب مثلا هزم منتخب بلجيكا المصنف رقم 2 على مستوى العالم فهل منتخب المغرب بمثابة رقم 1 وبطل العالم مثلا لأنه هزم رقم 2 وأفضل منه في المباراة فهذه الإشكالية خير مثال وخير دليل على إشكالية القياس المنطقي.
ومن الملامح الثقافية الأخرى جانب من جوانب اكتساب المعرفة والذي حظي باهتمام الأدبيات ألا وهو الإبداع، ويعرف الإبداع بأنه القدرة على إنتاج شيء جديد غير مسبوق سواء كان فكرةً أو منتجا، على أن يتصف هذا الشيء بالأصالة (أو الجدة) والندرة والملاءمة والنفع، ولكن إبداع بعض اللاعبين قد لا يكون بنفس الإبداع المعرفي ولكننا مضطرين أن نطلق عليه إبداع.
ومن الملامح الثقافية للشعوب خلال كأس العالم تعزيز النمو والإبداع من خلال التجارب والاحتكاك بين الثقافات، وقد دعمت العديد من الدراسات الحديثة هذه الفكرة، ففي إحدى الدراسات، أظهر “مادوكس” و”جالينسكي” أن الوقت الذي يقضيه المرء خارج بلاده يرتبط ارتباطا إيجابيًا بالإبداع، وأن تهيئة وتنشيط تجارب العيش في الخارج عززت من الميول الإبداعية للمشاركين الذين عاشوا سابقًا في الخارج، ولكن من الضروري أن تتسم تلك الخبرة بالاندماج والقدرة على التكيف. وربما هذا الأمر حدث وتحقق عند كثير من الجماهير والمشاركين في كأس العالم.
ومن الملامح الثقافية للمشاركين في كأس العالم اشتراك الناس من جميع الثقافات في رؤية متشابهة للذكاء، أي أنه مفهوم شامل يلخص المهارات والقدرات اللازمة للعيش بفعالية في ثقافة الفرد. ذلك، وفي الوقت نفسه، هناك اختلافات ثقافية بشكل طبيعي بسبب الاختلافات في كيفية تحديد الثقافات للأهداف والمهارات والقدرات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف. ستحتاج الأبحاث المستقبلية إلى البحث عن القواسم المشتركة، وكذلك الاختلافات عبر الثقافات واستكشاف المتغيرات السياقية التي تؤثر على السلوكيات المتعلقة بالذكاء، وسببها، وهو أمر ظهر ووضح بوضوح في إطلاق لفظ الذكاء باتفاق على كثير من اللعبات والتصرفات الذكية.
ويبدو كذلك أن بعض الفئات ذات طابع عالمي عبر مختلف الثقافات فتعابير الوجه التي تشير إلى المشاعر الأساسية السعادة والحزن والغضب والخوف والمفاجأة والاشمئزاز توضع في نفس الفئات عبر مختلف الثقافات وبالمثل هناك اتفاق واسع النطاق عبر الثقافات بشأن الألوان الأساسية والألوان الثانوية يبدو أن الطريقة التي يختار بها الأشخاص الألوان ويتذكرونها مستقلة إلى حد كبير عن الثقافة واللغة وهو أمر وضح بوضوح في الاتفاق على تعابير الجماهير المعبرة عن حالهم.

محمد حبيب
طالب بترم سادس علم نفس مدمج
درعمي وباحث بالمركز الإعلامي بدار الإفتاء المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى