الجد ما عاد زعيمًا!
كنت أولي وجهي شطر ذيل جلباب جدي الأبيض في مشاويره البعيدة الغامضة، وأحوم حوله في الأسواق وفي مجلسه المعتاد بجوار دكان بقال حارتنا،، يجلس جدي فوق الأريكة الخشبية ولا يجعل من الحائط مسندًا له.. يفضل الجلوس ﺇلى طرفها الأمامي، مشدود الجزع والرقبة، منتصب القامة، مائل الذقن للأمام قليلا وإلي أعلي. يظل علي هيئته تلك لساعات.. وبسببها ولأسباب أخري لا أعلمها، أطلقوا عليه لقب “الزعيم”.
في كل صباح يلتف الجيران حوله. يفترشون الأرض المتربة، ينصتون في صمت.. يأمرهم باحتساء القرفة شتاء والينسون صيفًا.. ويفعلون. ينهض ويجلس دون داع، فينهضون ويقفون ولا يجلسون إلا بعد أن يشير إليهم بأطراف أصابعه.. ولا يشير إلا بعد فترة مفتعلا الانهماك في حديث لا أفهمه.
ارتضوا بنصيحته دائماً، ولم يكن صوته الرخيم خفيضا مهما حاول، فكنت أسمع همسه المزعج بنصائحه العجيبة.. سمعته يهمس في أذن أحدهم، أن يعتزل زوجته المتمردة حتى تسعي إليه نادمة.. تجرأت وسألته معترضا، فضربني برفق علي راسي وابتسم صامتا. أما تلك السيدة البدينة التي تشكو من الآم مبرحة في كل مفاصل عظامها، قال لها: (خذوا من القرآن ما شئتم)
ثم دس في يدها ورقة مطوية وأمرها أن تعلقها أسفل إبطها الأيمن، بعد ذلك أدهشني كثيرًا أن رأيتها تتشاجر في السوق!
أكثر ما كان يغضبه في تلك الأيام البعيدة. أن يجدني أعدو خلف “الترام”، ولا أركبه إلا بعد أن يتحرك كما يفعل كل أولاد الحارة، وهو ما حدث فعلا وضبطني أعدو وأتسلق درجة سلم العربة، ثم أهبط لأعدو من جديد وأتسلق حتى المحطة التالية، وحتى وجدت من يقبض على كفي ويدفعني إلى داخل العربة. رمقته فوجدته جدي غاضبا غضبا شديدا. ليس لأنني كنت أرتدى الجلباب المتسخ، ولا لأنني لم أخبر أمي عن تلك اللعبة الخطرة.. ولم يفصح عن سر غضبه!
لم أسأله، حتى وصلنا إلى ميدان مسجد “سيدنا الحسين ” المكتظ بالناس والأطفال والألعاب التي تشوقت إليها، وتعلقت بها حالا. لم يكن غضب جدي سبابا ولعنات، كان يقطب ما بين حاجبيه. وبقدر شدة وليونة تقلص جلد جبهته تكون شدة غضبته، مع ذلك أسرع بشراء “الطرطور” ذا “الشراشيب” الذهبية، شرب معي “العرقسوس” الذي أحبه.. ثم قبض على قفاي كعادته حتى يضمن ألا أنفلت منه وسط الزحام.
لم أتمكن إلا من التقاط ما تسمح به سعه الرؤية لعيني.. الملتصقة برأسي، المطوية بين أنامله وقبضته. بقدر ما أنجح في التقاطه، أستمتع بمرح الأطفال وهم يتسلقون الأرجوحة “الساقية”، وهم يلعبون “الاستغماية، وهم يصرخون ويهللون بسباب بعضهم بعضًا.
ظللت بين قبضة جدي يدفعني بشدة تعادل حرصه على وجود رقبتي في قبضته. ولما أسرع الخطى ونحن نعبر البوابة الصخرية الرطبة القديمة، وقد أسلمتنا إلى ذلك الممر الطلي الرطب المظلم الممتد، ظننت أنه يسعى إلي تلك النسمة الرقيقة التي هونت كثيرًا علينا من وطأة لفحه الشمس في الخارج.. ظننت أنها الرحلة الشهرية لزيادة مقابر أجداده القريبة، لكنه لم يفعل. وتابع حتى مللت المشوار ومللته. تذكرت دعاء جدي لمريديه.. كان يقول لهم: (ربنا يسلم طريقنا)
التصقت بفخذ جدي علني أجبره على التوقف. أو ليحملني حتى نصل إلى الضوء القريب القادم… عندما وصلنا، استقبلنا ساحة فسيحة، تعلوها قبة مقعرة، مكسوة بالزجاج الملون وبالعنكبوت، فترسل شمسا غير التي نعرفها. شعرت برهبة غريبة، ولما انتبه لي، ضمني أمامه، فأغرقت وجهي في لحم بطنه. لا أدرى كم انقضى من الوقت وكلانا يسير هكذا.. يتقدم بخطواته القصيرة المتعجلة، وأسير أنا إلى الخلف بخطوات ثقيلة مرتجفة..
ما أن أفرجت جفوني حتى شعرت بالدوار، حملقت فيمن حولي، كأني في دنيا غير الدنيا التي أعرف. رأيت رجلا شديد البياض. جلبابه أكثر بياضا من جلباب جدي حتى قدماه الممدودتان أمامه.. وكذلك تلك الغلالة الرقيقة التي تعلو رأسه.. كلها بيضاء أنصع من بياض غلالة جدي.
أناس كثيرة من حوله، جميعهم يقبلون يد الرجل الأكثر بياضا من يدي جدي. أكثر ما انتبهت له، كان جدي.. وجدته يحنى ظهره، يلوي رقبته وذقنه وكل رأسه إلي أسفل، جدي مثلهم، انه مثلهم إذن!
جدي لم يعد زعيمًا! فتذكرت يقينا أنه مشغول في زعيم آخر، وقد هانت قبضته عن رقبتي. وانفرجت أصابع كفه، انه ترك قفاي وغاب عنى.. عبرت عن رغبتي في التبول وسط الساحة.. قلت لهم، بل صرخت فيهم: (محصورًا، ماذا أفعل؟).. لم أسمع ردًا.
شعرت بلذة عظيمة، أن أفرحت عن بولي، وأرحت تقلصات مثانتي، ثم عدوت ألهو مع الأطفال تحت لفحة الشمس فوق رؤوسنا. لا أتذكر، متي وكيف عثر جدي علي؟ ثم أعادني عنوة إلي منزلنا. لكنني ما عدت أحوم حوله في الأسواق ولا حول مجلسه، يأمرهم بشرب القرفة شتاء والينسون صيفًا، مع نصائحه وأوامره الهامسة أحيانا!
قصة قصيىرة من المجموعة القصصية دوائر من حرير للروائي والكاتب الدكتور السيد نجم.