“في رحاب الجد”.. سر طقوس الماء

اعتاد جدي أن يشرب كميات كبيره من المياه، إن صباحًا أو مساء أو في ساعات الليل، سواء شعر بالعطش أو لم يشعر. أراه دوما على حال التعلق بالماء، حتى ولو كان على غير إرادة منه، كأنه يخشى ملاك الموت، يأتيه على حين غفلة، فيشرب ولو جرعة صغيرة جدًا.. ربما تحميه وتلطف من جوفه في جهنم! وكانت طقوسه الغريبة مع الماء؟!

أخبرني أنه قرر قطع كل علاقة منه مع العالم في الخارج.. لم أفهم، فابتسم وقال: (يكفيني ما أنجزته وتعاركت من أجله..)  لم أفهم أيضا، فقط شعرت برغبة غريبة في التلصص عليه، لعلي أفهم.

يبدو أنني لست في حاجة للتلصص، اعتاد جدي أن يقص ويحكي، فعلمت أنه نجح في كل الصراعات التي قرر اقتحامها. لن أخبرك عما بذله من أجل أن يضاعف دخله الشهري حتى ينجح في توفير الخبز والغموس لأبنائه.. نعم، أبناؤه الخمسة.. كل ما يشغله الآن أن يبقى وحده داخل غرفته وفوق سريره، ثم يحتسي الماء، ان ليلا او نهارا وفي كل الأوقات.

أكثر ما تألمت منه وله، أن تحملت وحدي كل أعباء طقوس جدي مع الماء.. فلا تمر ثلاث دقائق كاملة إلا وأسمع صوت النداء باسمي، أعجبتني اللعبة في البداية، بمضي الوقت بدأت أشعر بالضيق والزهق، حتى هددتني أمي بشيخوختي، ولن أجد من أحفادي من يقدم لي جرعة ماء!

لم أفهم ما تعنيه أمي، لكني شعرت بشيء ما جعلني لا أتردد في الاستجابة إلى سباب الجد بأدب جم! تحولت العلاقة بيني وبين جدي وقلل المياه المعلقة في سور الشرفة، فوق قاعدة خشبية ومحاطة بسيخين من الحديد.. أصبحت العلاقة بيننا بلا تفكير أو قرار وأمر أوافق عليه.. بسرعة أجري نحو القلل فور سماع حشرجة صوته الخشن، فلما سألته: (لماذا لا تخرج ﺇلى الشارع؟) أجاب بجملة واحدة، معناها الخوف من الموت بين أقدام الناس في الشوارع، ففضل البقاء وحده فوق سريره، لا يعوزه إلا جرعة ماء، أعد لها العدة.

فلا أراه ثرثارًا صاحب لغة مفهومه، إلا في حديث الماء. غالبا من يراه يتحدث يظن أنه في حضرة خبير محنك، في شئون الماء. فجأة ينهض من داخل صومعته الخاصة، بخفة غير معهوده، يسرع للتوضؤ صائحًا فيمن يقابله بغضب شديد، آمرًا أن يتبعه للصلاة وأن التوضؤ الجيد نصف الصلاة. فما من أمي إلا التمتمة بالكلمات لا تستطيع أن توضحها.. دورة المياه سوف تغرق حالا في فيض من المياه، وعليها قضاء نصف الساعة في تنظيفها من جديد!

وفي كل الصلوات لا يتلو إلا واحدة من تسع وخمسين آية ذكرت الماء فيها.. ولا يمل تكرار معلوماته؛ سورة الواقعة والحاقة وعبس وفصلت والسجدة والفرقان والحج والأنبياء والرعد والبقرة.. ذكرت فيها الماء لمرة واحدة، بينما في سورة هود لثلاث مرات.

في البداية دهشوا من معلومات جدي تلك، بمضي الوقت حفظوها عنه، ثم ملوا اللعبة، حتى فاجأهم بما أدهشهم أكثر كثيرًا عما قبل. نجح الجد في حصر وتحديد الآيات التي تتناول الموت.. وبدأ يذكرها ويرددها بقوة ذاكرة يحسد عليها، وهو على حالة من الوهن والتيه.

أكثر ما جعلهم يستمعون بلا تعليق، وألجمتهم السكتة حتى خرست ألسنتهم.. وقت أن بدأ يقارن بين آيات الموت وآيات الماء!  يقول أن الماء جاءت في الآيات الذي تتحدث عن الحياة، عن الخلق، عن عطاء الله بالخير، وهو الذي أنقذ نوحًا وأهله، وهو العطاء الذي لا ينضب في الجنة. بينما الموت جاء في خمس وثلاثين آية فقط.. وأكثر ما تكرر في تلك الآيات قوله تعالى ” كل نفس ذائقة الموت “.

فلما انتهى زمن الدهشة، سألوه: (الموت مكتوب على الناس كلها، دعنا لحالنا)؟)قاطعهم وتمتم في نفسه: (أستغفر الله العظيم) ويكررها بآلية وتكشيرة استفزت خالي “حسين” أو الابن العاق كما يلقبه جدي، حتى قال له بانفعال: (أنت ناوي تدخل الجنة على حسابنا.. إن كنت فاهم فهمنا.. والأفضل خليك أنت في حالك، منتظر الموت بطريقتك؟!) سأله جدي: (وانت اشرح لي أفكارك وأنت منتظره يا روح أمك؟!) قأجاب الخال: (أنا تطوعت في الجيش والسفر للحدود بعد يومين، وهناك يبقى للموت معنى)

طقوس جدي مع الماء تبدأ في طريقته الخاصة في شرب الماء، وفي علاقته الخاصة بالقُلل، فهو لا يشرب إلا منها حتى في عز برد “طوبة”. له بدلاً من القلة عشر قلل مرصوصة على سور الشرفة، صمم لها حاملا حديديًا، يوم أن وقف على يد الحداد الماهر حتى ينفذ كل تعليماته. حرص على اقتناء كل أشكال القلل، ذي الرقبة الطويلة كرقبة الإوزة كما يسميها، والمتكور ذي الرقبة القصيرة، وغير المتكورة، وأشكال يكاد لا تراها ﺇلا في شرفة جدي، وإذا تحدثنا عن الألوان.. منها الأحمر أو اللون الطوبى ومنها الفاتح غير المحروق.

نجح في مصادقة صناع الفخار في حدود القاهرة من الهرم، شبرا، الفخارية في مصر القديمة.. فكانت القلل ذات اليدين والخالية منها، وتلك الأشبه بالزير وشبيهة رأس الأسد وغيرها كثير!

الآن وبعد أن زهقت من لعبة القلل، اكتشفت تفسير وجود تلك الكميات الزائدة من القلل التي لم تستخدم.. باختصار لاحظ جدي ما أفعله عمدًا.. عامدًا متعمدا أترك القلة وكأنها سقطت سهوا.. تسقط وكأنها قنبلة ماء فأضحك ويكشر جدي، ولا  أبرر أبدًا سر فعلتي الخبيثة، كله كوم وموضوع الحائل الداخلي بالقلل كوم. للجد مزاج خاص في منظر هذا الحائل وشكل الزخارف فيه،  إصراره كبير وشديد في العناية بابتكار الأشكال الغامضة في هذا الحائل!

وهناك طقس آخر انتبهت له من كثرة ما شاهدته وهو يشرب.. فشفتاه لا تلامس حافة القلة، تتسربل الماء من خلال الحائل، فتصدر صوتا يجعل من لم يشرب يعشق الشرب، فلا يلامس الرجل حافة رقبة القلة، حتى إذا وصلت إلى شفتي الجد امتصها بمتعة وتلذذ، وإلا لماذا تبدو الشفتان هكذا مرتعشة لامعة، زاد وغطى أن بدأت أثير غضب جدي عمدًا.. كأن أشرب من قلله ولو جرعة صغيرة، وأنا أعلم تمامًا أن جدي يرفض مشاركتهم في قلله، وكم من الوقت يقضيه في إعدادها وتنظيف الغطاء النحاسي وتلميعه بالليمون فيبرق النحاس مثل الذهب.

وهو ما حدث اليوم.. صاح الجد علي بسرعة إحضار القُلة، فتجرعت الجرعة الصغيرة، وبسرعة حككت شفتي بكُم الجلباب وقد أدرت رأسي إلى الناحية البعيدة عن عينيه، وإلا اكتشف احتقان وجهي كله.. كم هي لذيذة تلك اللعبة وأنا أختلس جرعة عندًا في جدي.

بقيت ذراعي الصغيرة ممدودة إلى حين، بينما جدي لم يحملها عني بعد، حتى إذا ألقيت طلة سريعة إلى جدي وجدته نائما. نائمًا نومًا هادئًا على غير العادة وبلا الشخير الذي أعرفه عنه، لم يطل المشهد.. صاحت، تمنيت لو أقدر على إيقاظ جدي، لم أنجح، بقيت معلقًا بجدي النائم، بينما أجساد الأهل والجيران تتوارد وتكتظ بهم الغرفة.. فلما صاح فيهم أحد الجيران خرجوا جميعًا، وقد نسوا أنني هناك منزويًا في الركن البعيد، مع صمتي، وأنا أسأل رأسي:  (لماذا لم يستيقظ جدى، ولم يأخذ قلة الماء التي يحبها؟!).

قصة قصيرة من المجموعة القصصية ” دوائر من حرير” للكاتب والروائي الدكتور السيد نجم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى