الناقد أحمد فرحات يكتب: أطواق هدى الزهراني

الناقد أحمد فرحات

قبل بضع سنوات كانت المرأة العربية تكتب تحت اسم مستعار، ولا تستطيع أن توقع باسمها الحقيقي خجلا واحتراما للعادات العربية التليدة، ومع مرور الزمن أضحت تجهر بالقول باسم حقيقي. وتقول:

أوَكلما وجَّهتُ قلبي وجهةً

يأتي غرامك أوَّل الوجهاتِ!

أوَكلما أنوي التجلُّد جئتني

في الصمتِ في الإلهامِ في الغفواتِ

أوَكلما أنوي الخصامَ رمقتني

فتراجعت وتخاذلت نيّـاتي

من أنتَ يا هذا؟ لعبتَ بهيبتي

خالفتُ فيك مجامع العاداتِ!

لا أعرف الشاعرة هدى الزهراني، ولم أقرأ لها من قبل، حاولت أن أجمع عن شعرها معلومات من هنا وهناك، لكنها أغنتني عن البحث والسؤال، عرّفتني وعرفت كل جمهورها بنفسها شعرا فقالت لي ولكم قصيدة “لمن لا يعرفني”

لست التي في شبر ماء تغرق

كلا، ولا أغتر مهما صفقوا

لي غاية أسمى وونفس كلما

روضتها جمحت وعودٌ يعبق

وأموت دون مآربي لكنني

ألقى بها أرضا ولا أتملق

تفاجئنا هدى الزهراني بسيرة شعرية تمتاز بعلو الهمة، وسموق النفس، من خلال أدوات تعبيرية كاشفة لما يعتمل في نفسها، فهي لبقة، حسنة التصرف في الأمور، ولا تعوقها المشاكل والصعاب، تتغلب عليها ولا تغرق في شبر ماء، ذلك التعبير الدارج، عميق الأثر، ونابع من نفس طموح، عالية القيمة.

وعبر مقطعات شعرية قصيرة نسبيا نتعرف على الشاعرة ذات النفس الطموح، فتقول تحت عنوان “غواية”

قالوا من الشعر ما يغوي فقلت لهم

لا ضير أغوي الذي بالحب أغراني

قالوا فمنه الذي يردي فقلت لهم

وما الردى غير في كتمان أشجاني

هب أن عشقي كان محض غواية

ماذا يضيرك لو غويتَ قليلا؟

يا سيدي موت الهوى في رشده

واسأل تجد في العاشقين دليلا

الشاعرة الغاوية تنشئ حوارا افتراضيا بينها وبين محبوبها، على طريقة قالوا-قلت لكنها سرعان ما تلتفت إلى المحبوب وتوجه إليه الحوار وكأنه هو المعني بكل الأسئلة والأجوبة، وهي طريقة معروفة في الشعر القديم، والحديث أيضا، تنحرف بالقصيدة إلى العنصر الدرامي الذي اشتبكت فيه القصيدة المعاصرة مع الآخر. وهذه الطريقة (الظريفة) تجعلنا نتجاوب مع السؤال ونتوقع من طرف خفي الإجابة عن السؤال، فالحوار هنا مظهر خارجي لظهور الآخر بشكل واضح.

شقاوة أنثوية محببة في الإعلان عن الحب والغواية بصوت عال، ربما تكون هذه الطريقة غير متوقعة فإنها تكسر أفق توقع القارئ بالتصريح والمباشرة المحببة.

الآن الآن وقد بدت ملامح التجربة الشعرية عند الشاعرة صاحبة الدلال التي تفجر طاقات أنثوية عز عليها التصريح بها قبل ذلك، فإنها تعيدنا في جرأتها وقوتها الأنثوية البادية على سطح الرقعة الشعرية الخاصة بها إلى ولادة بنت المستكفي وحفصة الركونية وطروب ورسيس وغيرهن ممن كانت لديهن اليد الطولى في الحرية والجرأة كي يُعلم أن البراعة في أهل الجزيرة العربية كالغريزة لهم حتى في نسائهم فقد برعن في البلاغة والبيان والقول الجرئ من الشعر، فقد اتسمت الشاعرة بالفصاحة والبيان كأنها الغريزة الراسخة في نفسها.  تأمل معي كيف وظفت الشاعرة الرؤيا والمنام في شعرها. فتحت عنوان:رؤيا” تقول:

رأيتك في المنام تطيل عذرا

فآنسني اعتذارك في المنام

ورد عليك من عينيّ جمر

فكان الرد أبلغ من كلامي

فقلت ترفقي عيناك أغلى

وأولى من كلامٍ أو ملام

نهضت إلى عناقك دون رشد

وقد ألقيت عن ثغري لثامي

وتحت عنوان “لي الله” تقول:

رأيتك في المنام فقلت أهلا

بمن وطئ الفؤاد، وطئت سهلا

أقم هذا مكانك لا تغادر

فإنك لم تغادر منه أصلا

لي الله الذي سواك فردا

وللشاعرة في تصرف الحلم وما تراه مذهب فني معكوس، فالمعلوم أن المرأة تلهم الشعراء فنون القول وضروبه، أما أن يكون الرجل هو مصدر إلهام المرأة فهذا أمر جديد وطريف ويدعو إلى الدهشة المتوخاة من الشعر، فشعرها مدهش حقا!  

أعتقد أن شعر هدى الزهراني سيشغل الناس طويلا لجرأته وحريته واستلهامها الرجل محبوبا، وسمات فنية وموضوعية أخرى سيقف أمامها النقد طويلا. وقد بدا حرا طليقا جريئا قويا معبرا عن مكنون العاطفة ومدارج الوجدان. فإنها تغار من أنفاس بنت أنثى وليس من أنثى فقط!

إني أغار من الأنفاس تلفظها

فتنتشي بنت أنثى منك ما انطلقا

الناقد أحمد فرحات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى