أيمن الصاوي قصة ” لِقاء عِند إشارة الْمرور”

أيمن الصاوي

بعد أن مرت السنون بأفراحِها وأحْزانِها، سقطت أشرعةُ أحْلامُنا بين عواصف الرياح العاتية ، وعصفت بقارب أُمْنياتِنا دون رحمة ، فلم نستطع الوصول إلى شط النجاة ، ونرى بأعيننا من حاولوا النجاة قد غرقوا، ونحن نقاوم لكننا نغرق تارةً وتارةَ ننجوا، حتى غرق قارِبنُا وغرقت أحلامُنا بين الأمواج الْمتلاطمة.

وأصبح الوصولُ إلى مانتمناهُ مستحيلاً، لم يتبقَ من الماضى إلا ذكرياتٌ تطُلُّ من نافذةِ العقل، بعدما أرسل له القلب متوسلاً ليستدعيَها ، ذكرياتُ جميلةُ .

أيام الصِّبا والشباب كنا لا نحمل همًا ولا مسئوليةً ، كُنا نُلقِى بِكُل همومِنَا على وَالدُّينا ، ونحْنُ كالطِّيورِالصغيرة ، نمرح ونحلق فى السماء ، وننتظر وَالدينا يأتون لنا بالطعام والشراب وكل متطلبات الحياة.
نتمنى أن نعود إلى دنْيا الأمسِ، فدُنْيا الغد هى نفس دُنْيا اليوم ،لا راحة ولا أمان ، ولا سلام ولا طمأنينة ، حياة تحفها الأوجاع والأحزان والهموم.

فصرنا كالشيوخ الكبار يعيشون على ذكرياتهم، يبحثون من بين الذكريات على لحظات يتمنوا أن تعود، فليست كل الذكريات نبحث عنها، فهناك ذكريات تؤلمنا لا نريد أن نتذكرها أو يُذكّرنا بها أحد.

أثناء ذهابى إلى العمل بوسط المدينة المزدحمة بالوجوه والأقدام التي تجُر الناس إلى أعمالهم ، وطوابير السيارات فى كل الشوارع ، صورة من اليوم تشبه صورة الأمس، وينتظر الغد المجهول رؤيتها بنفس الصورة.
وربما تتغيرالصورة ، ويطير الناس بسياراتهم فى الهواء، وإشارات المرور تكون فى الهواء، وتصبح الشوارع والطرقات خالية إلا من أمثالى ، ممن يحبون الهدوء والسكون ولا يحبون الضجيج والزحمة.

بعد مضي عشرسنوات، وبعد أن تغيرت ملامِحُنا، وربما ما فى قلوبنا من مشاعر قد ذبلت، كما يذوب الملح فى الماء، فتموت الأزهار إذا تركها البستانى ورحل عنها ، وتموت أيضا إذا انشغل عنها ، فجاء اللقاء صدفةُ
وعلى غير موعد، ربما لوكان هناك موعد ما تمَّ اللقاءُ ، واختلقنا الأعذار، وافتعلنا الظروف ، وكُل واحد يريد أن يُلقى الْلوم على الأخر.

وكان اللقاء عند إشارةِ المرور

فُتِحت إشارة المرور، وعند عبور الطريق، وأنا أسير بين جموع الناس فجأةً تلْمحُهَا عيناى ، وهى آتية على بُعد خطوات من الجهة الأخرى ، لم أصدق نفسي، فنظرْتُ مرةً أخرى لأتأكد أنها هى، نعم .. إنها هى .. مديحة
ملامحها لم تتغير كثيرًا ، حتى إن تغيرت فهى لازالت فى عينى كما هى منذ عشر سنوات هل لازالت تتذكرنى أريد أن تنتبه لى وترانى .

فوجدتها هى الأخرى تنظر لى، ورأيت دهشتها وسعادتها فى عينيها وكأنى أسمعها : تنادينى ..أحمد ،وابتسمت لى، فابتسمت لها، واقتربنا وأصبحنا وجهًا لوجه، وعيوننا مازالت تُفتِّش فى ملامحنا ، مازالت تحاول أن تصدق لحظتها.

ثم أخذنا نتمْتِم بكلمات لاندرى ماذا نقول، الكلام يهرب ويختبأ خلف نظرات أعْينِنا ، وعندما نحاول أن نتكلم بصوت خافت، لا نسمع بعضَنا البعض، من ضجيج الناس والسيارات، ولازالت أعيننا تحاول أن تخترق ستائر قلوبنا ، لنعرف هل حُبنا لازال يسكن وجداننَا ، أم غيَّرتنا
الأيام.
وأصبح لكُل واحدٍ منَّا حياتُه الجديدة التى لا يستطيع أن يفك قيود سلاسلها المُحْكمة، وسيرحل كلُّ واحدٍ إلى عالمه الآخر الذى شيَّد أركانه خلال الأعوام الماضية ، ولم يصبح لأحلام الماضى مكان.

وثوانى وتُغْلق إشارة المرور.. وكل ذكريات الأمس باتت أمام أعيُنِنا تمُر، والقلب يُعلن للعقل أنَّ ما كان بالماضى لم يمت، بل هو دفينٌ فى وجدانِهمَا لم تمحوه الأيام، فقد حاولا الأرتباط والزواج منذ عشر سنوات، لكن الظروف منعت هذا الارتباط.
ظروف متداخلة معقدة انتهت برفض والدها لهذا الزواج، ومن لحظتها تفرَّقا .

-أمَّا الْعقلُ فيرفُض ذلك، ويُعلِن أن هذه الصُّدفةَ لا تعنى شيئًا لكُلاً مِنْهُما لكنَّهما قررا أن يتقابلا ليتحدَّثا سويًا، وحاول كلُّ منهما أن يأخذَ بيد الأخر ، ليسلك معه طريقه، لكن تصادما بالناس .

وكأنّ الناسَ هم الضمير الذى استيقظ فجأة، فلكلِّ واحدٍ مِنهُما أسرته ُوأولادُه، فلن يستطيعا أن يسْلكا طريقًا واحدًا، لا فائدة من كل ذلك.

هُما لم يستطيعا بناء أسرة فى الماضى، فهل يستطيعا الآن، فالقلوب تعلقت
بأشخاص أخرى، وأصبح لهم مكانٌ كبيرٌ بالقلب وما ذنبُ الأخرينَ أن تُبنى سعادةُ غيرِهم على حسابهم.

هل من يحب يقسو ويظلم من أجل أن يحقق أحلاما مضت وصارت سرابًا؟ وجموع الناس تشدُّهما من مكانهما ، وتبعدهما عن بعضهما البعض، وهما يحاولان دفع الناس لكن دون جدوى، حتى وصل كل واحدٍ منهما إلى الجهة الأخرى من الطريق ، وظلَّا ينظران إلى بعضهما البعض ، إلى أن اختفيا شيئًا فشيئًا بين جموع الناس والسيارات التى تسير، ربما هذه هى النهاية ، حتى لو ألتقينا مرة أخرى صدفة، لا يحق لنا أن نتذكر ما مضى .

أيمن الصاوي

اقرأ ايضًا:

محمد أبو المعاطي يكتب قصيدة بعنوان “الصبر دوايا “

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى