فريد شوقي يكتب: خطاب غير مجرى حياتى
نشرت مجلة الكواكب في عام ١٩٥٥ مقالًا للفنان فريد شوقي يتحدث فيه عن خطاب غير مجرى حياته، وجاء نص المقال كالتالي:
كان لى هوايتان وأنا طالب أخطو نحو السابعة عشرة من عمري الهواية الاولي الملاكمة، والهواية الثانية التمثيل.. وكنت أتقدم في هوايتي الأولى تقدمًا محسوسًا.
كان مدرب المدرسة يعتز بقضية بدي أشد الاعتزاز كان يرشحني لبطولة عالمية، ويقول لي أن أمالي، في البطولات يجب أن تجتاز حدود مصر وفي تلك الأثناء جاءت الأنباء تقول أن الدورة ألاولمبية ستعقد في برلين.
وبدأت مصر تستعد للاشتراك في الدورة بأبطالها في مختلف انواع الرياضة، وكنت في المباريات المدرسية أصرع كل المنافسين بعد دقائق معدودة، واشتركت في البطولة المفتوحة ففزت ببطولة منطقة القاهرة ،ولم يبق امامي إلا أن اهزم بطل الإسكندرية ليتقرر نهائيا أن أسافر الي برلين وتمثيل مصر مع أبطال الملاكمة.
ضربة حاسمة
وكنت مزهوا بالنصارى فى منطقة القهرة، وعلمت أن بطل الاسكندرية ليس فى مثل براعتى، وشاهد المباراة جمهور فقير، كان أكثره يصيح مشجعاً لى.
كنت مستهينا به، وقد شئت أن استعرض فنى أمام الجمهور قبل أن أصرعه.. ثم فجأة حدث مالم أكن أتوقع، نشط خصمى نشاطا فجائيا وعاجلنى بضربة يمينية افقدتنى الوعي وحين افقت وجدتنى فى حجرة الملابس ، مع مدربى واحد الأطباء وهو يحاول أعادتى على صوابى ونظرت للمدرب طويلا.
وسالت من عيني الدموع ففى ذلك اليوم تبددت كل أحلامى فى تحقيق البطولة العالمية وفى السفر الى برلين ، واقسمت فى ذلك اليوم ألا أدخل حلبة الملاكمة طيلة عمرى، وكان عزائي بعد هذا هو التمثيل .. هوايتى الثانية.
مسابقة للوجوه الجديدة
وقد كنت أتقلد أدوار البطولة فى كل المسرحيات التى تقدمها المدرسة فى الحفلات السنوية، وقد أثار هذا احقاد الزملاء الذين يكبروننى سنا، ولكن مدرب التمثيل كان يضرب بأحقادهم واحتجاجاتهم عرض الحائط وعلمنى درس الملاكمة ألا أكون مغرورًا.
وألا أعتقد فى نفسى التى بلغت الكمال فى شئ ، وكان هذا دافعا لى على الالقان والتفانى وفى سنة 1949 تخرجت فى المدرسة، وأعلن الأستاذ يوسف وهبى عن مسابقة للوجوه الجديدة لتغذية الفرقة المصرية بها، وقد خطر لى ألا أضيع الفرصة، فكتبت الى الاستاذ يوسف وهبى الخطاب التالى :
“أحب أن أحيطكم علما يا استاذى العظيم بأننى استطيع الآن أن أحاكيك فى التمثيل بذات الصوت والحركة المسرحية ، ولهذا أرجو أن تختار لى من بين من سيتقدم إليك حتى تضمن للفرقة المصرية بطلا لا يشق له غبار ”
مجنون
وأعلن عن يوم المسابقة فمضيت أستعد له ، كنت أعرف أن المتسابقين يتساءلون عن الروايات المختلفة ، ويطلب إليهم أداء مواقف تمثيلية منها ، وقد اتصلت بأحد الملقنين فى الفرقة المصرية ونقلت منه بعض مواقف يوسف وهبى فى رواياته المختلفة.
ثم صرت اقتصد من مصروفى لاستطيع مشاهدة يوسف وهبى فى هذه المشاهد، ولا أكاد أعود الى البيت حتى أبدأ فى تقليد يوسف، ولا أكاد أعود الى البيت حتى ابدأ فى تقليد يوسف، فارفع عقيرتى بالعبارات الرنانة، وأهتف فى أمنية رزق التى أتخيلها أمامى: ” اخرجى من بيتى ياخاينه ”
وكنت فى تلك التفرة من حياتى أقيم عند عمتى ، وكان قبالتنا جيران فضوليون لا يكادو يسمعون هذه العبارات حتى يتراصو فى النوافذ ليتبينوا جلية الأمر، ولم يصدقوا طبعا أن المسألة تمثيل فى تمثيل ، وحين مالوا للتصديق أطلقوا شائعة بأننى مجنون ، اهذى بما أشاهده من يوسف وهبى على المسرح.
وذات ليلة حفظت دورا ليوسف يتحدث فيه بليونة ورقة ، ووقفت أمام المرآة فى حجرتى اتحدث بصوت خفيض، وتكأكأ الجيران للنوافذ
جمهور النوافذ
وعلى الفور نظرت الى الجيران من النافذة ، وانتهت المسرحية ، فضحكوا طويلا ، وكان حديثهن عنى أننى سأكون ذا شأن فى عالم المسرح ، وكن بعد هذا يقنعن بسماعى من نوافذهن.
وانا راض سعيد بجمهورى الذى يطل على من النوافد وفى يوم المسابقة كنت قد حفظت بعضا من مواقف يوسف وهبى ن ووقفت مع المتسابقين ، وكان فيهم شبان لهم شعور لامعة، واعواد فارعة مياسة، أما أنا فلم أكن أنيقا الأناقة الكافية، ولا كان شعرى لامعا مثل شعورهم، ورغم هذا فقد كنت على ثقة من أننى سأكون بين الفائزين فى المسابقة، وبدأ الاستاذ يوسف وهبى الامتحان حين نادانى قائلا:
فيكم واحد أسمه فريد شوقى .. فقلت له أنا وانا أخطو للامام خطوة عسكرية :
_ ايوه يابيه ..أنا
وبدأ الأستاذ يوسف بامتحانى، كنت قويا فيما أديت ، وقد أثرت إعجابه حين أجبته عن الأسئلة التى وجهها الى والتى دارت حول مؤلفى المسرحيات المختلفة، والأغراض التى يرمون إليها برسم الشخصيات المختلفة، ونجحت مع اثنين هما كامل الحفناوى وعز الدين الترجمان.
وأعطانا النجاح الحق فى أن نتقلد أدوار الكومبارس الراقى فى الفرقة ، وكنا نقنع بهذه الأدوار على تفاهتها، كنت أقوم بدور جندى لا ينبس ببنت شقه طيلة ثلاث ساعات ولكنى أتفاتى فى الواقعة “الزنهارية” والحركة طبقا لمواقف المسرحية المختلفة.
وانتقلت بعد هذا من أدوار الكومبارس الى أدوار ثانوية ،ثم التحقت بعد ذلك بمعهد التمثيل عندما أفتتح، ولكنى لم أنفصل عن الفرئة المصرية، وعلمنى المسرح اكثر مما علمنى المعهد، علمنى الفن على أصوله، قادني إلى النجاح الذى أجنى ثماره.