“كان يلحن وهو يمشي”.. حكايات عن أحمد صدقي

حكاية الملحن أحمد صدقي غريبة بعض الشئ، فقد بدأ حياته الفنية في مصلحة الآثار، ولم يكن قبل ذلك يعرف شيئا عن الفن، وهو في مصلحة الآثار خطرت لأحمد صدقي فكرة ملء وقت الفراغ بتقليد التماثيل، فراح يصنع من الطين تماثيل تشبه أبو الهول ورمسيس وتوت عنخ أمون، ووجد أحمد صدقي في يديه مرونة ووجد في عقله رغبة جياشة في أن يصنع تماثيل من ابتكاره، فبدأ يصنع تماثيل الفلاح، وعندما رآه رؤساؤه شجعوه على أن يمضي في الطريق الذي سار فيه من قبل كبار المثالين، حسبما ذكر تقرير عن الملحن الكبير ونشر في مجلة الكواكب.
إلى المعهد
ولكن في أثناء ذلك كان أحمد صدقي شغوفا بالاستماع إلى غناء الشيخ زكريا أحمد، ولا سيما في أغنيه “ليه عزيز دمعي تذله” ولم يكن صوت أحمد صدقي من الأصوات الجميلة، بل إن صوته لم يكن أصلا يصلح للغناء، لكنه كان يجد لذة كبيرة في أن يغني لنفسه، لا سيما أغنية “ليه عزيز دمعه تذله”، وعندما تملكته هواية الموسيقى صمم على أن يلتحق بمعهد الموسيقى
مغنٍ بالصدفة
ومضى أحمد صدقي في دراسته مجددا، ثم استطاع أن يقدم للإذاعة أول لحن ريفي، لكي تغنيه المطربة فاطمة علي، وقبلت الإذاعة أن تضع أغنيته ضمن البرنامج، ولكن فاطمة علي أصيبت بمرض منعها من الذهاب إلى الإذاعة في ذلك اليوم، وكادت الفرصة تفلت من يد أحمد صدقي، فماذا يفعل؟ لم يشأ أن يخبر أحدا من رجال الإذاعة بغياب فاطمة أو بمرضها، إنما تعمد أن يضيع الوقت متظاهرا بانتظارها، حتى إذا لم يبقى سوى دقائق على إذاعة الأغنية فاجأهم بالخبر، وعرض عليهم أن يسمحوا له أن يغنيها بنفسه، وهكذا حمل الأثير لأول مرة صوت أحمد صدقي، الذي لم يكن يظن أبدا أنه سوف يكون يوما ما من المطربين، ومن هنا بدأ أحمد صدقي يسير في الطريق، الذي لم يكن يتوقع أنه يسير فيه، وساعدته الظروف على أن يفرض الحالة على الملأ، عندما كلفته الإذاعة بتقديم ركن خاص للأغاني الريفية، لكن حتى مع ظهور اسم أحمد صدقي في دنيا الملحنين، لم يشأ أن يترك هوايته الأصلية، هواية النحت.
رايداك
لكن أحمد صدقي لم يلمع ولم تسلط عليه أضواء الشهرة إلا بعد ذلك بسنوات، وبالتحديد في عام 1950 عندما عهد إليه بتلحين بضع أغنيات من فيلم شاطئ الغرام، وكانت هناك أغنية واحدة من بينها تحمل له في طياتها نصيبا وافرا من الحظ، تلك أغنية “ريداك” ولأغنية رايداك قصة لا بأس من أن تسمعها من أحمد صدقي بنفسه: “عندما بدأت ألحن هذه الأغنية، ترددت كثيرا، فإن كلمة ريداك لم تكن من الكلمات المطروقة في محيط الشعر الغنائي، وكانت إلى جانب ذلك كلمة غير مقبولة في الأذن التي تحسن الاستماع إلى الغناء، وكان من الممكن أن يتغاضى عنها، لولا أنني لم أستطع أن أضمنها لحنا طيبا أو مقبولا، كانت كلمة ريداك بعبارة موجزة كالنغمة النشاذ، وذهبت إلى المخرج بركات، ورددت إليه الأغنية ليعطيها لغيرى من الملحنين، وسرني أن أرى بركات هو الآخر على رأيي، فيما يتعلق بمطلع الأغنية “ريداك والنبي ريداك” حتى إنه عرض على المؤلف الأستاذ صالح جودة أن يستبدلها بعبارة أهواك والنبي أهواك، فلم يقبل صالح أن يغيرها، لكن الإشكال ظل مع ذلك قائما، وطلب بركات إلي أن أجرب مرة أخرى، وعدت إلى البيت، ووضعت أمامي آلة التسجيل ومضيت أحاول تلحين ريداك، ولم أتنبه إلى مضي الوقت، وأنا أحاول تلحينها حتى طلع الفجر، فاندسست في فراشي لأنام، وفيما أنا أحاول إغماض عيني، مر تحت نافذة غرفتي رجل من الفلاحين الذين يبيعون الناي، وكان أثناء مروره يصفر بلحن من نفس النغم الذي كان متسلطا على ذهني، ومضى الرجل في طريقه حتى تلاشى صوت نايه، ولكن ظل النغم يتردد في ذهني، وأخذت أحاول تركيبه على مطلع الأغنية حتى وفقت إلى اللحن الأخير، وبعد ان سجلت الأغنية في الأستوديو، لم أكن أتوقع أنها ستلاقي نجاحا يذكر، فلاقت ما لم أكن أتوقع.
ليلة من ألف ليلة
وجاءت بعد ذلك المرحلة الثانية، في حياة أحمد صدقي، المرحلة التي جعلت منه ملحنا من الصف الأول من كبار الملحنين، وكان ذلك عندما فكرت الفرقة المصرية في إخراج أوبريت ليله من ألف ليله، ولم يكن أحمد صدقي هو الملحن الوحيد الذي فكرت فيه الفرقة المصرية ليلحن لها الأوبريت، بل لعله كان آخرهم، فقد عرضوا تلحينها على زكريا أحمد ورياض السنباطي وغيرهما، ولكن بعضهم اعتذر متعللًا بضيق الوقت، والبعض الآخر طلب مبلغا لا تحتمله ميزانية الفرقة، أما أحمد صدقي فقد كان يسعى وراء عمل كبير يدعم به حياته الفنية، لذا سرعان ما قبل كل شروط الفرقة، ومضى يلحن الأبريت صاحب السبعة مشاهد، مواصلا ليله بنهاره، حتى خرجت تحفه في فن الموسيقى بشهادة العارفين،
يلحن وهو يمشي
وهكذا أصبح أحمد صدقي ملحنا من الذين تتقدم ألحانهم للتاريخ، مع ما وصل إليه أحمد صدقي من شهرة في دنيا الموسيقى فإنه لم يجمع ثروة تذكر، إن كل ما ربحه من وراء ألحانه لا يعد بضع مئات من الجنيهات، وضعها جميعا في منزل صغير بالجيزة أنشا فيه بستان صغير ونافورة، واكتفى بهما عن جنة الأغنياء،
وأحسن ألحان أحمد صدقي كما يقول هي التي تطرأ عليه وهو يمشي في الطريق، فإذا رأيته يوما وهو يسير فلا تحاول أن تتحدث إليه، إنه حينئذ قد ينظر إليك طويلا قبل أن يتنبه إليك، عندئذ تكون قد قطعت عليه حبل ألحانه.
أحمد صدقي
كان والده معاون إدارة في المنصورة، وكان من هواة الموسيقى، بل كان نافذا ناقدا خبيرا في قواعدها وأصولها، ومن هنا ربى الوالد أولاده على حب الفن لمس الأب في ابنه أحمد صدقي، مواهب فنية، فعز عليه وهو فنان يحب الفن، إن تقيد هذه المواهب فوعد ابنه بإرساله للقاهرة، ليلتحق بمعهد الموسيقى، بعد أن ينجح في امتحان الكفاءة، وعهد إلى مدرس الموسيقى بملجأ المنصورة أن يعلمه المبادئ الأولى في العزف على العود، حتى انتهى من الامتحان وذات يوم كان زميله الأستاذ أحمد يوسف الرسام بمصلحة الآثار يستعد لعمل برنامج عن وفاء النيل، وقد ترجمه من أصله الفرعوني، وكان يعرف هواية أحمد صدقي بالموسيقى، فعرض عليه أن يلحن أغاني هذا البرنامج، لكن أحمد صدقي اعتذر، ورشح زكريا أحمد السنباطي لهذه المهمة، واستطاع أحمد يوسف أن يقنعه بمحاولة تلحين البرنامج، وبعد أيام حمل أحمد يوسف الألحان إلى الإذاعة، فأعجب المسؤولون بالألحان، وسألوه عن صاحبها، وصحبه أحمد يوسف إلى الإذاعة، ومنذ هذا اليوم بدأ أحمد صدقي نشاطه كملحن، ولحن عدة برامج للإذاعة لفتت إليه أنظار المشتغلين بالسينما.