عبير حسني تقدم قراءة في كتاب ” فجر الضمير” للكاتب جيمس هنري برستيد
كان من الجيد أن تتاح لي فرصة قراءة النسخة الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب للعام 1999من كتاب فجر الضمير والذي يحوي 448 صفحة، وتعتبر تلك المرة الأولي للتعرف على مؤرخ في التاريخ القديم بحجم علم جيمس هنري برستيد، ودفعني هذا لاقتناء نسخة أخرى صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة طبعة2020.
ولنا أن نتخيل مدى الثراء الفكري عندما قام الدكتور سليم حسن عالم المصريات بترجمة هذا الكتاب الذي اعتبره من أمهات الكتب حيث قام “برستيد” بدحض النظريات الراسخة بأن الحضارة الأوربية أخذت من العبرانيين وان كان هناك يعتقد بذلك لعدم قراءته الكتاب، أظهر للعالم بأن مصدر حضارات الإنسانية هي حضارة مصر القديمة.
الخيال لن يسمح للكاتب دائما ليسرد ما توصل إليه من حقائق وبراهين عبر اجتيازه مفازة التاريخ القاسية فالواقع يفرض سطوته كشمس أغسطس الواضحة، الا أنه ملك بأسلوبه الأدبي لب القارئ دون أن يصيبه الملل من قراءة كتاب يضج بالمصطلحات والعبارات الصعبة التي لا يفهمها سوى المتخصصين بالتاريخ القديم.
ولن أنكر أن اختيار اسم الكتاب كان له الدافع الأكبر لقراءته (فجر الضمير) على الرغم من وضع الكتاب عام 1934 وهي فترة ثراء ثقافي واكتشافات علمية الا أنه استطاع أن يفسح له مكان لن أظنه يتخلى عنه يوما ما.
حيث أشار الكاتب أن نشأة الضمير الإنساني وجذوره كانت بمصر وبها تكونت الأخلاق منذ أقدم العهود الإنسانية حتى وان مرت بفترات مظلمة فطالما كانت تعاود التوهج كمنارة شامخة لن تنطفئ يوما أو يخبو نورها.
ولعل ما تناوله الكاتب وطريقة سرده المتفردة هي ما دفعت عالم المصريات سليم حسن لترجمة تلك الدرة النفيسة.
لقد قضى “برستيد” على ترهات كانت شائعة بين علماء التاريخ القديم والحديث أيضا حيث ركن كثيرين منهم الى حضارة الصين والهند ثم بلاد اليونان بأنها مصدر حضارات العالم.
وأشار الى دور فلسطين بحكم موقعها الجغرافي كونها نقطة الاتصال بين الحضارة الأوربية والمصرية.
تطرق الكاتب إلى فترة أعقاب الحرب العالمية حيث لم يعد يتورع الإنسان باستخدام وسائل الفتك والتدمير باستخدام قدرته الميكانيكية للقيام بالمزيد من التخريب المروع.
ولم يكن هناك خط دفاع ليصمد أمام هذا الكم من الهجوم سوى (الضمير الإنساني) وكذلك(الأخلاق) …ويذكرني هذا بالوصايا العشر التي أنزلت على موسى.
شعرت بالفخر عند ذكر البرديات المصرية وما تحتويه من علوم متقدمة وتعاليم إنسانية ساهمت في بناء حضارة قوية صامدة حتى الآن ومن الانصاف عدم اغفال التسلسل التاريخي لعرض خالي من التعصب للإرث العبراني وتعاليم التوراة حيث التقدم الحضاري كما عرض الكاتب يحيط بالممالك بفلسطين الا أن النضج الأخلاقي مصدره وادي النيل.
كبداية في الفصل الأول (الأساس والماضي) كانت الصورة جلية بأن هناك آثار عصر وحشي ما قبل التاريخ وعصر المدينة الحديثة كما أطلق عليه الكاتب والأطوار التي مر بها الانسان ليتجاوز القوى المادية التي تحيط به.
تناول في الفصل الثاني و(آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني) بالطبع المصري القديم متدين بفطرته والواقع لم توجد قوة أثرت في حياة الانسان القديم بقدر ما أثرت قوة الدين.
واستطاع الانتقال برشاقة الى عرض كيف لأله الشمس أن يصنع من المصري القديم حاكم عظيم لمملكة متطورة ومتون الأهرام خير شاهد على عصور قوة مكمنها إله دعم الأخلاق وحافظ على ممالكها.
وعندما انتقل للفصل الثالث (إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية) استطاع عبور صحراء التاريخ من بلدة هليوبولس عين شمس حاليا الى المتحف البريطاني لنشاهد حجر أسود محفوظ يعتبر المتن الحقيقي لوثيقة عهد الاتحاد الثاني وكذلك الوثائق والرسائل ومن الرائع ذكره (قبضة بتاح المحب للسلام والصلح)
في الفصل الرابع من الكتاب المعنون بـ” العقيدة الشمسية ومكافحة الموت” أرى أنه أخذنا برحلة نيلية بين الطبيعة النباتية التي كانت تزخر بها مصر قديما بعيدا عن الشكل القميء للكتل الخرسانية التي نشاهدها الآن من حولنا وكيف ان إله الخضرة سار على نهج أله الشمس دعم تقدم اجتماعي ومهندس ملكي يستخدم جماعات من أصحاب الحرف المنظمين في محاجر ضفاف النيل ليبهرونا بأعمدة ضخمة وعابد عظيمة للآلهة بعدما كان يستخدم سكينا من الحجر ثم من العاج غايته صيد الحيوانات والاسماك.
“متون الأهرام وصعود فرعون الى السماء” في الفصل الخامس غزل على الأنوال كيف للأخلاق والضمير أن تدعم تقدم النمط الحضاري في عهد الأسر الفرعونية القديمة وكيف تم اقناعهم كتور فكري للكهنة بالمعابد بوجود الحياة الأخرى بل وجود حياة عظيمة تشهد عليها (متون الأهرام).
لن يجد القارئ أدنى عقبة تعوق خيالها بالوصف الدقيق للرحلة للأخرة لبحيرة السوسن والسرور عندما يعبر المتوفى للعالم الأخر على جبل “سهسة” لأجل (رع).
القالب الأدبي الشيق استقبل برحابة كل البراهين والدلائل التاريخية الموثقة التي استشهد بها الكاتب بلا أدنى تكلف.
وكذلك السياق بالفصول (السادسة والسابعة والثامنة) تدعم الفكرة الرئيسة بأن نشأة الضمير تلازم مع أقدم حضارة عرفها العالم وهي الحضارة المصرية بلا منازع.
وان كنت أفضل عرض وتناول بعض الادعاءات الكاذبة ووضعها موضع مقارنة أمام تلك الأدلة حتى يتسنى للقارئ الوقوف على مدى تزقمها أمام تطور الحضارة المصرية القديمة.
بالفصل التاسع (السلوك والمسئولية وظهور النظام الخلقي) كان من الجيد حمل لنا صورة مظاهر الحياة على نطاق واسع ووجود الطبقات الاجتماعية المختلفة وممارسة التطور الإنساني بكافة مسئولياته ومقارنة نقوش المعابد وكلمات الكهنة عن العدالة والحق والتي تم تناولها بتسلل تاريخي فذ.
نجح الكاتب في اثبات ان أقدم المبادئ الخلقية عند قدماء المصريين تطورت مقرونة باله الشمس وليس بالفرعون وحتى عندما تطرق في الفصل العاشر (انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام) وتناوله الهادئ لحكم بتاح حيت وكاهن عين شمس وبعض الرجال المفكرين ومحاولة مستميتة لبعث التفاؤل بالوجود الأخلاقي بعيدا عن الوهم الاجتماعي الذي يحاول التفشي.
محاولة ناجحة حملنا فيها الى النهر العظيم بقارب من البردي وسط بناء اجتماعي ذو نسق مبهر.
لكم كان منصفا بالفصل الحادي عشر (الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية، التبشير)
بالعرض التاريخي لقلب الموازين في العهد الاقطاعي وتفشي الظلم وعدم استقامة الميزان وقد وجدت الموازين لأول مرة في تاريخ الأخلاق تظهر بالنقوش بمثابة رمز مجسم لتصوير المحاكمة وهي منصوبة بيد الهة العدالة العمياء رمزا الى يومنا هذا.
وعرض جيد لتعاليم النبي داود عليه السلام الداعمة للأخلاق وان كانت بصورة عابرة تاريخيا
لعله من الأفضل ان يدعمنا ببعض الاستفاضة قبل الانتقال للفصل الثاني عشر (أقدم جهاد في سبيل العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية) والتي شعرت حين قراته ببداية الانفصال عن السلطة الدينية والاقتراب من الجانب البشري في تحد سافر لكافة الثوابت الدينية التي كان لها كل الهيمنة على المساعي الإنسانية الحضارية منذ فجر التاريخ.
وصدق حدسي بالفصل الثالث عشر والرابع عشر (اقبال عامة الشعب على اعتناق مثل الآخرة الملكية وانتشار السحر)، (الحساب في الآخرة والسحر).
من الجيد الإشارة الى متون التوابيت للفصل بتلك القضايا، لأنني كقارئة لم أكن لأقبل أن يمضي بنا الى شلال خطير تتداعى فيه القوة المسيطرة للأخلاق والضمير…وأفزعني كم التعاويذ السحرية للكهنة المتطرفين تضمن للمتوفي قبوله خلقيا عند محاكمته في العالم الآخر.
من الفصول الهامة بالكتاب الفصل الخامس عشر (السيادة العالمية وأقدم عقيدة للتوحيد) كنت أنتظر رسو القارب التاريخي للكاتب بعدما حمل لنا كلمات القديس بولص تلميحا لدورة النبات وعلاقته بالتأثير بعقول القدامى وتمتع الكاتب بحيادية أرى أنها ظهرت جلية عبر سطوره.
حتى الفصل السادس عشر (سقوط اخناتون) ومن العبارات القوية التي استخدمها المؤرخ “برستيد” وصولنا لعصر انتشار التنسك الشخصي والكهانة وعرج بنا على حافة هضبة الجبانة والمزارات واعياد الشعب المقدسة والتي اوصدت عليها لعنة الفراعنة.
وبنهاية الفصل السابع عشر (مصادر ارثنا الأخلاقي) وأعتبره فصل ملهم استطاع ان يضع به درة التاج على مشروعه الجريء حيث الإشارة الى افريقيا الشمالية الشرقية هذا الجزء من العالم القديم ذو الموقع الجغرافي الفريد المسمى(مصر)والتي تعد مصدر للضمير الأخلاقي المدعوم بالقوة والتي حملت مشاعل النور للعالم اجمع.
بالنهاية.. القوة والأخلاق وجهان لعملة واحدة وحركة التقدم والرقى البشري مستمرة.
القارئ: عبير حسني محمود.. محافظة بورسعيد.