«أطلقوا علينا الرصاص بكثافة».. سعيد شيمي يروي قصة الطريق إلى إيلات

في كتابه الذي صدر في ثلاثة أجزاء عن دار الهالة للنشر والتوزيع تحت عنوان ” حكايات مصور سينما.. الغريب والخفي أثناء عمل الأفلام ” يحكي مدير التصوير الشهير سعيد شيمي عن تفاصيل تصوير فيلم “الطريق إلى إيلات”.

يقول سعيد شيمي:” لم يتوقف القتال يومًا من معركة (رأس العش) جنوب بورفؤاد عام 1967، حرب الاستنزاف هي نزيف الدم للعدو والقلق الكبير له بأننا لم نمُت ولن نموت، ومستمرون في القتال حتى تحرير كامل تراب الوطن.

صديقي -مدير التصوير: محمود عبد السميع- طلب مني أن أكون معه على الجبهة في سفره مع المخرج فؤاد التهامي إلى خط النار في الإسماعيلية، وكان يريدني أن أكون مساعدَ مصورٍ معه، وفي نفس الوقت أصور بكاميرا ثانية 16 مللي، فالغرض الأساسي للرحلة أن نظهر صمود القوات المسلحة على خط النار في الفيلم.

فكرة الفيلم

لم تكن فكرة الفيلم تبلورت بعد عند فؤاد؛ ولكن سافرنا نحن الثلاثة بملابس مدنية، توجهنا أولًا إلى الإسماعيلية كوننا نتحرك حسب الضابط الذي يرافقنا من إدارة الشؤون المعنوية.

كان التراشق بالمدفعية مستمرًّا، ولذلك لا يجوز أن تظهر السيارة في أماكن مفتوحة حتى لا تتوجه إليها النيران من العدو. عند أقرب نقطة إلى خندق محفور بعمق يقل عن مترين أو أكثر، بدأنا تحركنا داخله نحمل معداتنا أنا ومحمود وفؤاد.

كان ممنوعًا بتاتًا أن نرفع رؤوسنا من الخندق، ففي الضفة الشرقية المحتلة من الصهاينة يوجد قناصة ينتظرون أي ارتفاع لرأس، ونحن كذلك عندنا قناصة تعاملهم بالمثل.

التصوير في الخنادق

كنا نصوّر الرجال في الخنادق وحياتهم اليومية التي هي تحت النار والقصف المستمر من مدافع العدو، وبين الحين والآخر نرى طائراته. الطائرات أخطر وأسرع ويُعمَل لها ألف حساب لأنها تظهر فجأةً دون إنذار وتضرب سريعًا، أما المدفعية فتعودوا عليها.

كنا -مثل الجنود حولنا- نسير في طرق وشوارع تحت الأرض، تتحرك فيها السيارات، ثم يسكن كل شيء في الليل، كما كانت هناك (كلمة سر) إن لم يعرفها أحدنا تُطلَق عليه النار فورًا، فهو عدو متسلِّل.

كان الكثير من جنودنا الأبطال يعبرون القنال ليلًا، ويقومون بإغارة على موقع العدو.

استمررنا نصوّر لأيام كل مظاهر الحياة والهجمات في عدة مواقع في الإسماعيلية وضواحيها على الجبهة، حتى تحت منطقة تطل على بحيرة التمساح تسمى (جبل مريم). كنا نأكل نفس مأكولات الجنود: المعلبات أحيانًا من شركة قها أو وجبات طازجة ساخنة.

معسكر الجلاء

بعد عدة أيام شعرنا بإرهاق فأخذنا الضابط إلى معسكر الجلاء بالإسماعيلية، نمنا هناك ليلًا ولم نشعر من التعب بقرص الناموس المتوحش، فالبلد ليس فيها سكان ونحن (أو دماؤنا) وجبةٌ دسمة حلوة لناموس يتعطش للأكل والمص.

انتقلنا بعد ذلك في طريق خلفي من الجبهة إلى بورسعيد، في منطقة قبل دخول المدينة كانت أقل خطرًا، لكن فيها قناصون، لذلك استمررنا نصوّر كل ما تقع عيوننا عليه من مظاهر الحرب والقتال وراحة الجنود وحياتهم، روحٌ معنوية مرتفعة للغاية لهؤلاء الأبطال الذين يريدون أن يحاربوا، ولا يريدون أن يبقوا هكذا في الخنادق تحت الأرض.

لا تحركات ليلية كما ذكرت، لذلك السيارة المخصصة لنا -وهي ماركة (لاند روفر)- كانت تجري بأقصى سرعة قبل غروب الشمس حتى نصل إلى منطقة الفردان؛ ونحن نرجع مرة أخرى إلى وسط خط القتال… فؤاد التهامي والضابط مع السائق في الأمام، أنا ومحمود في صندوق السيارة في الخلف. فجأةً وجدنا أنفسنا نطير في الهواء ونتدحرج على أرضية السيارة، ثم توقفت، ماذا جرى؟ كيف طارت السيارة في الهواء؟

كان أمامنا خندق دفاعي محفورٌ بعمق، لم يشاهده السائق محمد، فطارت السيارة من سرعتها فوقه و(اترزعت) على الأرض في الجهة المقابلة، وحدث ما حدث، فجرينا إلى أقرب خندق حتى لا تُطلَق علينا النيران، وبِتنا فيه مع الجنود.

إطلاق الرصاص

تكررت سفرياتي مع محمود وفؤاد، مرةً أُطلِقت علينا النيران بكثافة ونحن في منطقة اسمها نمرة 6 على القنال مباشرةً، كان فيها مبنى ضخم على القنال، وكان من المفروض أن يكون مستشفى شركة قناة السويس، ولكن المبنى كان يشبه (المنخل) من الضرب المستمر عليه، فقررنا أن نعتليه ونصوّر من خلال الفتحات والفجوات التي فيه الضفة الشرقية من القناة ونرى تحصينات العدو، بالفعل تسللنا زاحفين على أرجلنا وأيدينا حتى لا يرانا العدو، وقمنا بالتصوير بالكامل، ولكن يبدو أنهم رأونا؛ فبدأ إطلاق النار على المبنى ونحن داخله نحاول أن ننزل ونخرج منه. نجونا يومها لأن في العُمر بقية.

كنت في هذه الفترة ما زلت طالبًا في المعهد العالي للسينما، وكنتُ في سفرياتي غائبًا عن الدراسة، لكن زميلتي أبية فريد كانت تضع شفاف الكربون تحت كتابة محاضراتها حتى يكون لي نسخة، في هذه الفترة من عام 1968 إلى عام 1970.

حلم الطريق إلى إيلات

قرأت في الجرائد عن أبطال الضفادع البشرية في إغاراتهم المستمرة على ميناء إيلات وإغراقهم السفن الحربية هناك أكثر من مرة، احتفظت بالجرائد، ولا أعلم لماذا؟ حلمت أن أصنع فيلمًا عن هؤلاء أبطال الضفادع، والحكاية لها جذور سينمائية في سن الصبا في سينما (كرنك)، وعلى ما أعتقد شاهدت فيلمًا يسمى (طوربيد الموت) عن هجوم الضفادع البشرية الإيطالية على قطع الأسطول الحربي البريطاني في ميناء الإسكندرية إبان الحرب العالمية الثانية، كنت مبهورًا من الفيلم، كان أفراد الضفادع البشرية في الفيلم وقتها يمتطون (الطوربيد) مثل الحصان، ضفدعان يتحركان به بالقرب من السفينة ثم يوجهونه ويتراجعون فينطلق هو إلى الهدف.

هذا الفيلم عشش في ذاكرتي؛ فأنا أحب وأعشق الأفلام الحربية من الصغر، وحلمت أن أصنع فيلمًا عن أبطال الضفادع المصريين يومًا ما، وتحقق ذلك بعد سنوات عديدة والحمد لله في فيلم (الطريق إلى إيلات).

من أحسن الأشياء الممكن حدوثها في حياتك أن تحلم وتتخيل، وفي يوم يصبح الحلم حقيقة! والحمد لله أني استطعت أن أحقق في حياتي أشياء كثيرة؛ سواء في حبي للسينما، أو حياتي الشخصية.

التصوير

رجعت مرة أخرى مع صديقي العزيز المخرج التسجيلي أحمد راشد إلى خط النار في بورسعيد في فيلم (بورسعيد 71)، وتم التصوير قبل مبادرة (روجرز) التي تم فيها إيقاف القتال في بورسعيد، وهي نسبيًّا بعيدة عن بورفؤاد.

قمنا بالتصوير، وكانت الخطورة هناك من الطائرات، لكن قمنا بالتصوير براحة أكثر، وبالطبع المدينة مُهجَّرة، وليس فيها إلا الجنود والقوات المرابطة والمدافعة وعمال الترسانة البحرية التابعة لقنال السويس الذين رفضوا التهجير وكونوا فرقة سمسمية.

كانوا يتنقلون بين الجنود ويغنون لهم على الآلة، مع الرقص الإيقاعي المشهورين به نشيد (إحنا شباب النصر). قمت أنا وأحمد بعمل فيلم عن هذه الفرقة التي رفضت أن تُهجَّر وأن تبقى من أجل الترفيه عن أبطالنا. وتمر السنين، وننتصر في حرب أكتوبر وأرضنا تُحرَّر، ويأخذني المخرج الشاب حامد سعيد إلى ندوة ثقافية مع البطل الربان عمر عز الدين -أحد الأبطال العظام من الضفادع البشرية الذين أغاروا لعدة مرات على ميناء إيلات في حرب الاستنزاف- في قصر ثقافة بورسعيد، وكانت محاضرةً رائعة تفاعل معها الجمهور والشباب بشكل كبير، ثم سمعت من الصالة صوتًا يقول بأعلى ما عنده: «أنا عاوز أشوفه، عاوز أشوف سعيد شيمي، ويتقدم إلى المسرح»، إنه عم (كامل عيد) الشاعر والعازف على السمسمية أثناء حرب الاستنزاف، لنتقابل بالأحضان والقبلات وأسئلة عن عم حمام عازف الملاعق الماهر، وعم يحيى الراقص البورسعيدي الرائع؛ لأعلم أنهم جميعًا في رحاب الله ولم يبق إلا هو، أيام عظيمة فيها يظهر المعدن الجميل الصادق للشعب المصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى