الناقد أحمد فرحات يكتب: رثاء النفس

الناقد أحمد فرحات

يمكن للمديح أن يتضاءل ويختفي، ويمكن للغزل أن يقل توهجه، ويمكن للوصف التقليدي أن يتلاشى، لكن لا يمكن للرثاء أن يختفي أو يتضاءل، فهو غرض شعري نشأ مع الشعر العربي منذ نشأته الأولى، ولن يخبو ضوؤه أو يزول. فهو غرض حي كالإنسان تماما، وفي الموت نجد أصدق المعاني وأشرفها وأدقها قوة وتعبيرا عن الفقد. فجل أغراض الشعر قابلة للزوال والامحاء والتعديل والتغيير إلا الرثاء.

وقد تفنن الشعراء في الرثاء، ورثوا الأصدقاء والآباء والأمهات والزوجات والأبناء حتى الحيوانات والمدن والممالك، كلها كانت غرضا للرثاء نقطة تحول في مسيرة الشعر العربي برمته. كما لم يفتهم أن يرثوا أنفسهم! نعم؛ فرثاء النفس كان موضوعا شائعا لدى الشعراء العرب ، فهذا ابن الخطيب يرثي نفسه ويقول:

بَعُدْنا وإنْ جاوَرَتْنا البُيوتْ

وجِئْنا بوَعْظٍ ونَحْنُ صُموتْ

وأنْفاسُنا سَكَتَتْ دَفْعَةً

كَجَهْرِ الصّلاةِ تَلاهُ القُنوتْ

وكُنّا عِظاماً فصِرْنا عِظاماً

وكُنّا نَقوتُ فَها نحْنُ قوتْ

وكنا شموس سماء العُلا

غربن فناحت عليها البيوت

فكمْ جَدّلَتْ ذا الحُسامِ الظُّبى

وذا البَخْتِ كم خَذلَتْهُ البُخوتْ

وكمْ سِيقَ للقَبْرِ في خِرْقَةٍ

فَتىً مُلِئَتْ منْ كُساهُ التّخوتْ

فقُلْ للعِدا ذَهَبَ ابْنُ الخَطيبِ

وفاتَ.. ومَنْ ذا الذي لا يَفوتْ

فمَنْ كانَ يَفرَحُ منْكُمْ لهُ

فقُلْ يَفْرَحُ اليومَ منْ لا يَموتْ

ولم يخل رثاء ابن الخطيب لنفسه من الصنعة الشعرية المعروفة من جناس وطباق وترصيع، فقوله (وكُنّا عِظاماً فصِرْنا عِظاما)ً

فعظام الأولى تشير إلى العظمة والسيادة وعلو الشأن، أما الثانية فتشيرإلى عظام الإنسان التي يأكلها الدود. وكذلك نقوت، وقوت.

أما الشاعر لبيد بن ربيعة فقد رثى نفسه بطريقة عجيبة حيث طلب من ابنتيه ألا يحلقا شعرا لهما، وألا يغتسلا لمدة حول كامل. فقال:

تَمَنّى اِبنَتايَ أَن يَعيشَ أَبوهُما

وَهَل أَنا إِلّا مِن رَبيعَةَ أَو مُضَر

وَنائِحَتانِ تَندُبانِ بِعاقِلٍ

أَخا ثِقَةٍ لا عَينَ مِنهُ وَلا أَثَر

وَفي اِبنَي نِزارٍ أُسوَةٌ إِن جَزِعتُما

وَإِن تَسأَلاهُم تُخبَرا فيهِمُ الخَبَر

وَفيمَن سِواهُم مِن مُلوكٍ وَسوقَةٍ

دَعائِمُ عَرشٍ خانَهُ الدَهرُ فَاِنقَعَر

فَقوما فَقولا بِالَّذي قَد عَلِمتُما

وَلا تَخمِشا وَجهاً وَلا تَحلِقا شَعَر

وَقولا هُوَ المَرءُ الَّذي لا خَليلَهُ

أَضاعَ وَلا خانَ الصَديقَ وَلا غَدَر

إِلى الحَولِ ثُمَّ اِسمُ السَلامِ عَلَيكُما

وَمَن يَبكِ حَولاً كامِلاً فَقَدِ اِعتَذَر

حَشودٌ عَلى المِقرى إِذا البُزلُ حارَدَت

سَريعٌ إِلى الداعي مُطاعٌ إِذا أَمَر

وَقَد كُنتُ جَلداً في الحَياةِ مُرَزَّءً

وَقَد كُنتُ أَنوي الخَيرَ وَالفَضلَ وَالذُخَر

ن

فكانت ابنتاه تلبسان ثيابهما في كلّ يوم، ثم تأتيان مجلس بني جعفر بن كلاب فترثيانه ولا تعولان، فأقامتا على ذلك حولا ثم انصرفتا.

ويفاجئنا أبو فراس الحمداني وهو يرثي نفسه بوابل من الأحزان والآلآم فيطلب من ابنته على عكس طلب لبيد ألا تحزن عند موته وأن تتحلى بالصبر

أَبُنَيَّتي لاتَحزَني

كُلُّ الأَنامِ إِلى ذَهابِ

أَبُنَيَّتي صَبراً جَمي

لاً لِلجَليلِ مِنَ المُصابِ

نوحي عَلَيَّ بِحَسرَةٍ

مِن خَلفِ سِترِكِ وَالحِجابِ

قولي إِذا نادَيتِني

وَعَيَيتِ عَن رَدِّ الجَوابِ

زَينُ الشَبابِ أَبو فِرا

سٍ لَم يُمَتَّع بِالشَبابِ

وهنا نجد تفاوتا عند الشعراء في طلب الحزن من أبنائه وكان من المفترض أن يترك الشعراء أولادهم دون وصاية فمن شاء فليحزن ومن شاء فلا يحزن وفي ذلك نقول:

لا تَسألنَّ أحدًا عَن ودِّه إيَّاك ، و لكِن انظُر مَا فِي نَفسَك لَه ، فإنَّ فِي نَفسه مِثل ذَاك ، إنَّ الأروَاح جُنودٌ مُجنَّدة

أو كما قال جرير:

و علىٰ القُلوبِ مِن القُلوبِ دلائِلٌ

‏ بالودِّ قَبل تشاهدِ الأرواح!”

وعليك أن تصمت عند الموت ولا تتفوه بكلمة غير الشهادة والحمد و..

تَبيتُ لَيلَكَ ذا وَجدٍ يُخامِرُهُ

كَأَنَّ في القَلبِ أَطرافَ المَساميرِ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى