الناقد أحمد فرحات يكتب: الشاعر المهندس أسامة الخولي

جنون الحواف
كلانا يعاندُ شوقَ الضفافْ
يخافُ ويدركُ مما يخافْ
تجذَّرَ في لحظةٍ من حنينٍ
ويخشى المزيدَ
ويخشى الكفافْ
ويصرخُ ملءَ الدموعِ الثكالى
ويضحكُ
رغم السنينِ العجافْ
ويمضي – بلا وجهةٍ – للوداعِ
لأنَّ جميعَ الجهاتِ انجرافْ
ويفتحُ أبوابهُ للرياحِ
ويعشقُ دوما جنونَ الحوافْ
بطيئا نموت ولكن لماذا
نموت مرارا بدون اعترافْ؟!

عندما أقرأ لشاعر مهندس أتذكر –للتو- كلمة الدكتور طه حسين عن الشاعر المهندس علي محمود طه وهو يقارن بينه وبين الشاعر الطبيب د. إبراهيم ناجي واصفاً الشاعر المهندس بأنه «مهيأ لأن يكون جباراً» أما ناجي فهو«شاعر هين، لين، رقيق، حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، قوي الجناح، ولكن إلى حد، لا يستطيع أنْ يتجاوز الرياض المألوفة، ولا أنْ يرتفع في الجو ارتفاعًا بعيد المدى.

وإنما قصاراه أنْ يتنقل في هذه الرياض التي تنبت في المدينة أو من حولها، والتي لا تكاد تبعد عنها كثيرًا، وهو إذا ألمَّ بحديقةٍ من الحدائق أو جنةٍ من الجنات لا يحب أنْ يقع على أشجارها الضخمة الشامخة في السماء، وإنما يحب أنْ يقع على أشجارها المعتدلة الهينة، ويتخير من هذه الأشجار أغصانها الرطبة اللدنة التي تثير في النفس حنانًا إليها، لا إكبارًا لها ولا إشفاقًا منها، هو شاعر حب رقيق، ولكنه ليس مسرفًا في العمق، ولا مسرفًا في السعة، ولا مسرفًا في الحب الذي يحرق القلوب تحريقًا ويمزق النفوس تمزيقًا، شعره أشبه بما يسميه الفرنجة موسيقى الغرفة منه بهذه الموسيقى الكبرى التي تذهب بك كل مذهب، وتهيم بك فيما تعرف وما لا تعرف من الأجواء. وأنا هنا لا أقارن أحد بالمهندس

الشاعر بل أصف شعوري عند قراءتي شعره في ديوانه القيم “جنون الحواف” تكشف الأنساق الثقافية المضمرة في قصيدة “جنون الحواف” عن مجموعة من الأنساق الثقافية الكامنة التي تتحرك تحت سطح اللغة، وتوجّه دلالاتها دون أن تُصرَّح بشكل مباشر. وتتداخل هذه الأنساق بين النفسي والاجتماعي واليقيني، لتصنع رؤية شعرية تقوم على القلق والتمزّق والتمرد والبحث عن اعتراف يقيني مفقود.

نسق الخوف واللايقين: يتكرر الخوف في النص («يخاف ويدرك مما يخاف»، «ويخشى المزيدَ… ويخشى الكفافْ»)، بما يعكس: هشاشة الذات العربية أمام التحولات السريعة التي عبر عنها بالحواف.

الوعي الجمعي الذي اعتاد الهزيمة والقلق والتوتر ومن ثم التمرد. وهذه ثقافة تربط الشجاعة بالصمت والصبر، فيولد خوفٌ مقموعٌ لا يُقال مستترا لا نراه لكننا نشعر بوجوده بقوة. هذا الخوف يتحول إلى مكوّن ثقافي غير معلن يوجّه التجربة الشعورية برمتها للذات الشاعرة. الشاعر المهندس هنا يواجه بمفرده عنتا ومشقة في مواجهة الوعي الجمعي الخانع، وربما الصامت عن الحق. وهذا من أكثر ما يؤلم الشاعر !

نسق الفقد والحرمان: تظهر دلالات «السنين العجاف»، «الكفاف»، «الوداع» باعتبارها مفاتيح تحمل تراثًا ثقافيًا مشتركًا عن الارتباط الرمزي بالجفاف والقحط، وهنا نتذكر السنين العجاف التي وردت في قصة يوسف عليه السلام ، وهذا موروث ديني استطاع الشاعر المهندس توظيفه بعناية ليشير إلى إحساس جماعي بفقد العدالة والخصب والطمأنينة. ويشير أيضا إلى مفهوم “العيش بالكفاف” بوصفه ثقافة حرمان ممتدة تاريخيًا من أيام يوسف إلى يومنا هذا، ليمثل خلفية غير منطوقة لتمزق الذات بين التمسك بالبقاء والخوف من العجز.
نسق التعلق بالحافة “ويعشقُ دوما جنونَ الحوافْ”

الحافة هنا ليست مكانًا، بل موقفًا ثقافيًا: يبغي ميلا دائما إلى التجربة المهددة، أو الحياة على حافة الانهيار. لتتأرجح ذات الشاعر المرهف بين الخوف من السقوط والرغبة في الانعتاق والانطلاق. ومن طرف خفي يشير بوضوح إلى تمجيد المغامرة، رغم الوعي بالخطر. فهو يحب المغامرة رغم الوعي بخسائرها الفادحة.
وهنا لابد من رؤية الشاعر المهندس إلى انتقاء عنوان لافت “جنون الحواف” ولابد أيضا من طرح البدائل الممكنة لاختيار العتبة الرئيس هل العنوان هو ما اختاره الشاعر أم يمكن انعكاسه وانقلاب ألفاظه وتحولها إلى حواف الجنون؟

يأتي العنوان المختار مكثّفًا ومحمّلًا بدلالات رمزية تُشكّل المفتاح التأويلي الأول للقصيدة. فهو يتكون من تركيب إضافي يجمع بين لفظتين متقابلتين دلاليًا: الجنون و الحواف، في نشوء علاقة توترية تُهيّئ القارئ لدخول عالم شعري قائم على الاضطراب والتوتر أما حواف الجنون فإنه يباشر العمق الدلالي للجنون وهذا ليس مرادا منه فالشاعر المهندس لا يقدم صورة للجنون وما أكثرها! .

البنية التركيبية للعنوان بنية تركيب إضافي «جنون الحواف» يحمل خصائص فنية واضحة الإيجاز المكثف. كلمتان فقط، لكنهما تُفتّحان فضاءً دلاليًا واسعًا.

الدرامية الناتجة عن المجاورة فالجمع بين “الجنون” و”الحافة” يصنع صدمة دلالية؛ فالحافة مكان محدود، بينما الجنون انفلات وامتداد. هذه المجاورة تكسر المألوف وتؤسس لخطاب شعري متوتر.
يحمل البعد الدلالي لكلمة “جنون” في الثقافة العربية دلالات متعددة: منها خروج عن النظام والسيرورة المألوفة. طاقة عاطفية غير مضبوطة تؤثر على انفعال أقصى لا يخضع للعقل. كما أنها تمثل حالة تمرد على القواعد وعلى الاستقرار.

فنياً، استخدام “الجنون” يستدعي عالماً من الغليان الشعوري، ما يهيئ القارئ لنص قائم على الانفجار الداخلي والتصادم مع الوجع.

“الحافة” هنا ليست مجرد مكان فيزيائي، بل رمزًا ثقافيًا وفلسفيًا ، ومكان الانتقال بين الأمان والخطر من جهة، ومن جهة أخرى يمثل مساحة هشّة بين السقوط والوقوف. بذلك يكون العنوان ثيمة عليا تتوزع على جسد القصيدة برمتها.

اقرأ ايضا:

الناقد أحمد فرحات يكتب: رثاء النفس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى