Site icon مباشر 24

الشاعر محمد الشربيني يكتب؛ “زينبُ” وأخواتُها…!!

الشاعر محمد الشربيني

الشاعر محمد الشربيني

كثيرًا ما باحت بمللها وضيقها من عمرها الطويل؛ إذ كانت تراه طال أكثر مما ينبغي من وجهة نظرها. وكلما استدرجتُها لتحكي ما يلوح لها من ذكرياتٍ – وكانت تشغف بذلك أيّما شغف – كنت أعرف أنها ستختمها في كل مرة بجملتها المعهودة:

“كلُّ أهلي ماتوا وكلُّ صاحباتي… ياه، أنا عشتُ كتير قوي… أنا زهقت!!”

وكذلك أنا، لم أكن أملُّ من رَدِّي المعتاد في كل مرة، أضاحكها مخبرًا إيّاها بذهابي إلى شركة الحجز للاستفسار عن موعد السفر النهائي لتأكيده – مثلما كنا نفعل في رحلات العمرة – وقد أخبروني أنَّه لا يزال باقٍ على السفر عشرةُ أعوام تبدأ من العام القادم. فتستعيد ما قلتُ وتضحك، فأكرّر… وأعيد وأزيد، وهي لا تُخفي سعادتها البادية في قولها: “بِجَد؟!”.

ساعتها أحاول الالتفات بوجهي هنا أو هناك؛ لئلّا تلمح دمعةً أصرت على السقوط رغماً عني!

كان ذلك مما لا أنساه لأمي “زينب”؛ إذ دقَّ بابها – يومًا – ما كانت تشكو بطءَ خطاه، فغادرت بعد نظرةٍ طويلة كأنما تملأ عينها مني قبيل رحيلها!

**(…إذا دقّ بابَك يا صاحبي مرةً… واحدٌ من رعايا يهود الذين هنا – دون سابق وعدٍ – يريد مصاهرتك!!

بماذا تُجيب؟! تفكّر ولا تندفع… تفكّر، فحَتفُك تحت لسانك يقبع!!

أتُصفِقُ البابَ في وجهه – يا واسع الباب – وقد فتحته؟!

أتتركه واقفًا بعد أن أرهقته الطوابق وهو الذي لا يُبدّد وقتَه؟!

أتُدخله باسماً ثم تُنكر زينبَ أختك، وتدّعي – مثلًا – أنها خُطبت لابن عمٍّ طواه التغرّب في فلوات الزمان المجرثم كي يجمع المهر، ثم يباغتها بالبشارة لكنه لم يعد؟!

فظلّت تهسّ… تهسّ… حتى أتاها وباءٌ فتك!

أقمتم لها مأتمًا ذائع الصيت، لحدًا جليل المحيّا… ولكن جثتَها بالمساء اختفت!

تشكل تقطيبةً تُغلّف إعصار كذبك… كن فطنًا، واعيًا بالحروف التي تستشيط بحلقك! كن!!)**

ومن منّا لم تفتنه قصيدة “زينب” لعالي المقام د. محمد أبو دومة؟ أو لم يشغف بإلقائه وسمته؟ فهو صاحب تجربة متفرّدة بين شعراء جيله.

وقد رأيتُ قصيدة “زينب” رصدًا حقيقيًا لما بعد “لا تُصالح” لأمل دنقل؛ فقد تمت اتفاقية “كامب ديفيد”، وأطماع العدو لا حدّ لها، فلماذا لا يطلب – بكل وقاحة – الزواج من سليلة الشرف، ابنتنا “زينب”، متخطّيًا كلَّ شيء؟!

فهل تُجدي أية مناورة لمنع حدوث تلك الكارثة؟!

نعود إلى أمي “زينب”، ولست أدري حقيقة هذا الارتباط الذي يطفو على سطح الخاطر كلما أبدت أمي “زينب” حسرتها لموت كلِّ أهلها وكلِّ أترابها اللواتي نشأت بينهن وتعلقت بهن.

ما إنْ يطفو على الخاطر ما مرَّ بأمي “زينب”، إلا ويطفو معه ما مرَّ بـ “السيدة زينب” رضي الله عنها.

ولا مقارنة بالطبع بين الزيْنبتين، سواء على المستوى الشخصي أو قيمة من فقدته عقيلةُ بني هاشم؛ فقد فُجعت بانتقال جدّها المصطفى ﷺ وهي ابنة خمس سنين، ثم بعد أشهر قليلة ودّعت أمّها الزهراء، ثم شهدت اغتيال أبيها الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب، ثم أخيها الحسن الخليفة الخامس اغتيالًا بالسمّ.

ثم جاءت نكبة كربلاء ومآسيها؛ إذ رأت بعينها كل أحبّتها شهداء مع أخيها الحسين وأسرته وأنصاره، فقُتل ابناها وسبعة عشر من شباب بني هاشم أمام ناظريها، ورأت الأجساد ممزّقةً بلا رؤوس، والنساء الأرامل من حولها يندبن قتلاهن وقد تعلق بهن الأطفال ذُعرًا وعطشًا، والجيش الأموي يحيط بهم دون مراعاةٍ لحرمة!

لذا أضاف المؤرخون إلى ألقابها لقب “أمّ المصائب” وإن لم يشتهر بين العوام.

فهل كان لأمي “زينب” – لِاتفاق الاسم – نصيبٌ من هذا اللقب؟!

**(…هو أخبرُ منك بما توارى بصدرِك، المُدبّر هو، والمُسيِّج فكرك!

هو السقفُ والأنف!!

يحفظ عن ظهر قلبٍ مواليد بيتك، يعرف أين ينام أبوك، وفي أي وقتٍ يغافلكم ليعانق أمك.

لديه عناوين زواركم! وأسماء جيرانكم! ويملك قائمة بما تحتويه الغرف: سجاجيدكم… والثياب التي بالأجَل…

بقول الموائد، زيت المعونات، ملح الطعام المشعّ، وسعر الدقيق المُكلِّف… يعرف… يعرف… يعرف!!

لذا دقّ بابَك يا صاحبي، سائلًا يدَ زينب… أو طالبًا لحم زينب!!

تفكّر ولا تندفع… أيُّ مهر؟ بأي صنوف التعامل يدفع؟

فله مُلكه… وله بَنكه… وهو يضمن للأهل والبيت أن الجميع سيشبع!

فبماذا إذن تتّقي ورطتك؟!

أتصرخ؟! تحتجّ بالعمّ، بالخال، برؤوس العشيرة؟! بُهْتانٌ فقد طعمه.

أنت تعلم أنّ الجميع إليه سعَوا… خِلسةً خِلسةً…

سايروه خلسةً… سارَرُوه… جالسَهم كلهم… وآخرهم أبو زينب!!

فأين مفرُّك؟!

تقول إن العقيدة تمنع؟!

يُغيّرها عند شيخٍ… يوثّقها بالشهود… يُذيلها بالنسور والصقور التي تشتهيها…

فإن تم عقدُ القِران… رجع!

أتَرفع مظلمة للقضاء، تشكّك فيما وقع؟!

من سيقرأ؟! من سيسمع؟!

تفكّر ولا تندفع…

تعود إلى دمك الرعشةُ المستكينة، تستلّ سكينًا… ثم تدفنها في فمه!

تُدسّ شروطَ التغاضي لك الصمتَ في لقمتك!

تروح كمن راح قبلك… نذرف نحن الأحبة بعض الأناشيد حول اعتراضٍ تسجّى…

ونبكيك وقتًا… وننساك…

حتى يهلَّ عريسٌ جديدٌ على باب زينب… يدري أن العقيدة تمنع!

فماذا يكون؟! أترفض؟!

هذه هي السقطةُ المُشتهاة ليعلن أنك تطعن – بالظهر – كلَّ بنودِ التَقَوْقُع!!)**

وتستمر قصيدة “زينب” ومنمنماتها الخزفية الحادّة، تمزّق لحم الكرامة المُستباح بطلب أحد رعايا اليهود يدَ “زينب” سليلة الشرف.

ولا فرق… أيطلب يدها أم لحمها؟!

ويدير الشاعر حوارًا داخليًا في نفس شقيق زينب؛ فالشكوك براكين على شفا الانفجار، يثبطها عقلٌ مُكبَّل، والعدو تغلغل في تفاصيل حياتنا، يعرف كل شيء عن كل شيء، والجميع نفض يديه.

وصارت مفردات الشرف والكرامة من قبيل الأشياء البائدة.

وأخو زينب يواجه طوفان الهواجس التي تزيّن له الانسحاق لشروط “كامب ديفيد”.

فماذا يفعل وليس في ساحة الرفض سواه؟!

لا ناصر يؤازر… ولا قريبٌ تدفعه النخوة.

ويأتي الختام مُكرِّسًا تواطؤ الجميع وخذلانهم لزينب وأخيها، ليُخلي الشاعر المشهد الأخير من كل رجل، وتتصدر “زينب” بؤرة الصورة، تاركًا لها قرار القبول أو الرفض… مستخدمًا سؤالاً مرعبًا:

هل تُفرّط زينب؟! هل تُفرّط؟!!

**(تحيّرتَ يا صاحبي… تحيّرتَ أدري…

فأنت بأيّ الإجابات بُحتَ؟!

بأيّ الإجابات لَمْ…!!

يظلّ يدق… يدق… يدق…

حتى توافق زينب…

ولكن زينب… هل…!!

هل تُفرِّ

Exit mobile version