الناقد أحمد فرحات يكتب: شعرنا القديم

بقلم: أحمد فرحات
دعا الدكتور عبد الله الغذامي إلى فكرة الأنساق الظاهرة، والأنساق المضمرة في سياق الشعرية العربية، وله في ذلك آراء مكتوبة وأخرى مسموعة ومرئية يدعو من خلالها إلى وجود نسق مستتر ومخفي في شعرنا العربي أدى بدوره إلى فكرة الفحولة العربية وأن المجتمع العربي منذ القديم يرسخ لهذه الفكرة وأن المرأة العربية ليس لها دور يذكر في الحياة الاجتماعية والسياسية الكبرى، وأنها مجني عليها حتى توارث الشعراء -عبر توالي الأجيال- هذه الفكرة الخطرة ، الفكرة المنقولة من دعاوى أقوام غير عرب، كانت المرأة عندهم مجرد سلعة يتاجرون فيها.
كما أنه يرى أن الشعر العربي جنى على الشخصية العربية جناية كبيرة أنتجت ما يسمى بفكرة الفحل، وأنه ساهم في إنشاء فكرة الطاغية وقال: “لقد آن الأوان لأن نبحث في العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة والتي يحملها ديوان العرب وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة”.
وتعد هذه الصفحات ردا مباشرا وغير مباشر على أفكار الدكتور الغذامي مستمدة من المصادر العليا للشعرية العربية نماذج توضيحية تفسيرية لإثبات أن الشخصية العربية لها خصوصيتهاـ وخاصة أن المرأة العربية ذات شخصية قيادية قوية، وأن الأنساق الظاهرة لها تعلي من قيمة الشخصية العربية لا تهبط بها إلى مستوى الخلل أو العيوب والنواقص.
لم يفتني أن أنوه إلى عدم اجترار تعاريف شائعة في الأبحاث العربية ومنتشرة هنا وهناك، كتعريف النسق والسياق وغيره، بل ألقيت الضوء مباشرة على النصوص الشعرية متخذا منها معول بناء لا معول هدم في استخلاص النتائج حول الشخصية العربية من خلال مصادر عليا في العصور الذهبية للشعر العربي.
ينبغي أن نقرر منذ البدء أن أدبنا العربي عامة أدب ليس فيه شيء غامض، ولا تحت الطاولة، أو مخفي لا يدركه فقهاء الأدب وقراؤه، فكل دارس له يقرأه بوضوح وجلاء لا خفاء فيه ولا غياب، فهو أدب واضح كل الوضوح، ولا يحتاج مفسرا ولا شارحا . فقط ربما يحتاج مؤولا لنصوصه حسب المناهج المختلفة التي تعالج قضاياه العامة والخاصة.
وليست الشعرية العربية شعرية غنوصية تضرب بجذورها في الماضي السحيق كالتي انتشرت بين بعض الجماعات المسيحية في عالم البحر المتوسط في القرن الثاني الميلادي، في الوقت الذي اعتبرهم آباء الكنيسة فيه هراطقة.
إن الشعر العربي واضح جلي ولم يكن أبدا شعرا غامضا غموضا كبيرا باستثناء بعض الأبيات والقصائد التي سميت بأبيات المعاني جمعها الإمام اللغوي أبو هلال العسكري حيث شكلت بعض الصعوبة على القارئ.
وهذه الصعوبة شكلت غموضا ملحوظا في المعنى، وغلفته ببعض الإبهام غير المتعمد، وقد سمى الدارسون القدامى ذلك(أبيات المعاني)، وهي أبيات يتعسر القارئ في معرفة معانيها؛ لأنها لا تتسم بالوضوح، ففيها من الغموض، وأحيانا اللبس، قدر كبير. ويمكن رد هذا الغموض إلى غرابة الأسلوب، وبعد المأخذ، وطرافة الاستعارة، وربما يرجع بعضها الآخر إلى بعض الألفاظ نفسها، من حيث كونها ألفاظا تحمل أكثر من معنى، وتشع أكثر من ظل، ومن هذه الأبيات قول العباس بن مِرْدَاس(الطويل):
وَلَو ماتَ مِنهُم مَن جَرَحنا لَأَصبَحَت |
|
ضِباعٌ بِأَكنافِ الأَراكِ عَرائِسا |
وَلَكِنَّهُم في الفارِسِيِّ فَلا يُرى |
|
مِنَ القَومِ إِلّا في المُضاعَفِ لابِسا
|
فالشاعر يريد أن يدرأ عن أعدائه النكاية بالجثث بعد قتلهم، فوصفهم بأنهم جنود يتدرعون الدروع الواقية، المنسوجة نسجا مضاعفا حلقتين حلقتين فلا ترى فيها منفذا لضربة سيف أو طعنة رمح، بينما تموت الجنود غيرهم، وتقطع رقابهم، ويتركون في العراء عرضة للضباع التي تفعل أفاعيلها بهم، حتى تغدو الضباع عرائسا، وقد غنمت غنما من هذه الجثث. فكون الضباع تصبح عرائسا معنى غير واضح ما لم ندرك ما وراء الجثث التي تترك في العراء عرضة للوحوش الضارية، والضبع من خصاله قبل أن يأكلها يراها وقد انتفخت، وانتفخ ذكرها فتصبح عندئذ عرضة للوطء، فتطؤها وتنال بغيتها منها ثم تلتهمها فتصبح عندئذ عرائسا. والمعنى لا يفهم إلا في إطار هذه الخلفية التي ذكرها الجاحظ.
ومن هذا الضرب أيضا قول سلمة بن الخرشب معيرا بني عامر: (الطويل)
إِذا مَاْ غَدَوتُمْ عَاْمِدينَ لِأَرضِنا |
|
بَنِي عَامِرٍ فَاِستَظهِروا بِالمَرائِرِ
|
فسلمة يعير بني عامر بهزيمتهم، ويذكرهم بأن بعضا من قبيلتهم لما خاف الإسار حين هزمت بنو عامر اختنق بحبل حتى مات؛ فالبيت لا يفهم إلا في ظل هذه الخلفية التي حدثت في حروب سابقة، ويصبح مجرد ذكرها في البيت من غير خلفية سابقة ضربا من الغموض والإيهام.