في زمنٍ تلوذ فيه الهويات إلى صوامع الانغلاق، وتتأجج فيه نار الشكوك والريبة، يبرز كتاب “المعابر الحدودية: رحلتي بوصفي مسلمًا غربيًا” الصادر عن دار Tech Books للمؤلف محمد طفيل تشودري سِفْرًا عميقًا يرصد سيرةَ ذاتٍ حائرة بين ثلاث هويات متجاذبة.
وقد كان لجهد المترجمة كريمة محسن يسري أن نقل هذا الكتاب العميق إلى العربية، حاملًا تجربةً شديدة الخصوصية إلى قارئ عربي أحوج ما يكون إلى فهم آليات صراع الهوية في الغرب. إنها شهادةٌ أدبية تستعيرُ من الرحلةِ الجغرافية استعارةً لرصد الرحلة الروحية، لتُوقظ القارئ على حقيقةٍ مؤرقة: أن الحدودَ ليست أسلاكًا شائكة، بل هي ترسيماتٌ نفسية وثقافية أشدّ وطأةً.
سيرةٌ بين ثلاث هويات: إن المؤلف، محمد طفيل تشودري، عابرُ الحدود، هو ابنٌ لضفتين؛ بريطانيُّ مسلمٌ من أصلٍ بنجلاديشيٍّ من سيلهيت. وقد سعت هُويتهُ، مذ نشأ، إلى محاورةِ ثلاثةِ أبعادٍ عَصِيّةٍ على التوفيق: البُعدُ البريطانيُّ الذي نشأَ عليه في أكسفورد ولندن، والبُعدُ الآسيويُّ المتوارَثُ عن أبويهِ من الجيلِ الأولِ للمهاجرين، والبُعدُ الإسلاميُّ الذي يمثلُ جوهرَ التزامه.
يأخذُنا تشودري في رحلةٍ إلى حياة والديهِ، ثم يكشفُ بمرارةٍ عن العنصرية التي تعتري حياة المسلمين في البلادِ الغربية. فلقد ظلّ، كما يروي، مُبعدًا عن لقب “الغربي” حتى منتصف الثلاثينيات من عمره، رغم صوته الإنجليزيّ المثالي ومقالاته الآسرة عن الديمقراطية. ويُفجعُ القارئَ بكونهِ رهين كونه “الآخر” كما يصف إدوارد سعيد، إذ يراه الإنجليزُ بنيَّ البشرة، بينما يراه البنجلاديشيون إنجليزيّاً أبيض اللون، ليظلّ مُعلقاً بين عالمين غير متكافئين، ويُعَدُّ في المحصّلةِ “أثرًا جانبيًا للهجرة”.
صدمة لصناع المحتوى …جوجل تدفع بالعملة المحلية بدلا من الدولار
جدار الشكُّ بعد الحادي عشر من سبتمبر: لقد بلغت محنة الهوية أوجَها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيثُ تحوّل المسلمُ الغربيُّ فجأةً إلى “عدوٍّ جديد، ولكن تلك المرة من داخل حدودنا”. هنا، يتوقّف السرد ليُفصّل المواجهةَ لشكوكِ الغربيين، التي تجسّدت في الأسئلة المُتكررة الساذجة والعدوانية على حدٍ سواء، التي تضع المسلم تحت ضغط شرح معتقداته وتبرير أفعاله.
لقد غدت حياة هذا الرحّالة مزيجاً بين التحدياتِ اليوميّةِ والمغامراتِ التي لا تنقطعُ بين المعابر الحدودية؛ إذ يصفُ تعرضهُ المتكرر للاستجواب والتفتيش الجسدي في مطارات العالم، لمجرد حيازته اسماً عربياً (محمد) ولحيةً قصيرةً، وجوازاً محمّلاً بأختام بلاد إسلامية. ويسردُ باستياءٍ كيف أنَّ ضباطاً في مطارٍ دولي تساءلوا عن كونهِ مسلماً بعد ساعات من التدقيق، في كاشفٍ مثيرٍ للقلق عن جهلِ المؤسساتِ الأمنيةِ بالآخر.
رحلةُ البحث عن الذات بين الأمكنة:
إنّ جوهرَ الكتابِ هو “الرحلةُ”، التي تتجاوزُ فضاءَ لندن المألوف إلى فضاءات الشرقِ المتجدد والمضطرب. فبكلماتِ محمد طفيل تشودري، الذي يسرد وقائعه الحقيقية في قالبٍ روائيٍّ مشوّقٍ، نُحلّقُ إلى الهند وباكستان وتركيا وروسيا وأذربيجان وكازاخستان، نزورُ دمشقَ وسائرَ أرجاءِ سوريا، نعتلِي جبالَ لبنان، ونستدعي مجدَ المسلمين في الأندلس، ونستحضرُ القاهرةَ قبيلَ ثورةِ يناير.
وهو في هذه الرحلات لا يكتفي بالوصف، بل يعايشُ عبورَ تلكَ الحدودِ، عودةً إلى أكسفورد ولندنَ. ويكشفُ عن صعوبةِ الهوية في كل مكان؛ ففي القاهرة، يُستوقَفُ من ضباطِ الشرطةِ والمخابراتِ ويُتّهم بالهرب لتجوله دون جواز سفر، ويُشكك في هويته البريطانية. وفي الغرب، يواجهُ نفاقَ مجتمعهِ وسوءَ فهمِ الآخرين للإسلام، ويروي كيف أنَّ الشيوخَ خذلوه بعجزهم عن إجابة أسئلته المحورية في فترة مراهقته. وقد كان للغةِ العربيةِ، التي جهدَ في تعلمها في لندن وسعى للانغماس فيها في دمشق، دورُ الجسرِ الذي حاول من خلاله سدَّ فجواتِ ثقافيةٍ عميقة.
ومن هذا الشتات، يجدُ القارئُ نفسهُ مسافراً عبرَ تلكَ الأمكنة والأزمنة من وراء صفحات كتابه.
أن تكون “الآخر”: يختمُ محمد طفيل تشودري سِفْرَه هذا برسالةٍ نبيلة، مؤكدةً للقارئ أنَّ رحلتَهُ هذه ما هي إلا “طريقتُه لفهم رحلتك” بغض النظر عن انتمائك. فقد استغرقَهُ الأمرُ صدماتٍ وعقباتٍ ليُقدّرَ أنَّ مشقّةَ كونكَ “الآخر” هي أيضاً أحدُ الامتيازاتِ الخفيةِ في الحياة. فـ “المعابر الحدودية” إطلالةٌ على باطنِ العالَم، ومرآةٌ للذات التي لا تستقرّ على تعريفٍ واحدٍ، بل تسعى إلى إثباتِ أنَّ تعددَ الانتماءاتِ ليس تناقضاً، بل هو ثراءٌ إنسانيٌّ عميق.