Site icon مباشر 24

الشاعر محمد الشربيني يكتب: أنا و العناني واليونسكو!!

الشاعر محمد الشربيني

الشاعر محمد الشربيني

الشاعر محمد الشربيني

وكان عمي”توحيد”القادم من بلاد النوبة بأسرته يسكنون البيتَ المقابلَ منزلَنا الكائن بحيِّ “الورديان”أثناء طفولتي السكندرية،والمتمعن في عمِّي “توحيد”يجده أسمرَ اللون طويلَ القامة قويَّ البنية،لكن أشدَّ ما لفت نظري طاقيتُه الشبيهةُ بطاقية الإمام “الشعراوي” وطيبةُ قلبه البادي نورُها على قسمات وجهه،ويبدو أن مهنته كانت تستدعي ارتداءَه ملابسَ حضريةً فلم أره يوماً يرتدي جلبابا كغيره من أبناء الصعيد والنوبة الذين اختاروا سكناهم حول الجمرك وغيره من مصالحَ تستوعبهم، وكانت زوجته طيبةَ العشرة لاتبخل بنصائحها على الأمهات صغيرات السن ومنهن والدتي…هذا التقاربُ سمح لابنته “سلمى” القريبة سناً مني وغيرها من أطفال تلك البيوت المتقاربة أن نخرج نمارس ألعابنا الساذجة دونما خوفٍ، لكن المثيرَ لدهشتي حينما أدخل شقتَنا وسط اللعب لأعوِّض العرقَ الباديَ على وجهي ببعض الماء البارد من إحدى القُلل الممزوجِ بشيء من ماء الورد..!!

يا الله كانت هذه القلل الفُخَّار أحلى ما أبدعه إجدادُنا لاحتساء الماء الزلال،إذْ تضع أمي في حلوقها ليمونا كاملا يمنح الماء رائحته ومذاقه فلا يملك الظمآن حين يرفعها إلى فمه إلا أن يعبَّ ما وسعه اشتهاؤه وطاقته!!
أقول كنت إذا ما دخلتُ تلتقط أذنايَ بعض الكلمات وقد اختلج صوت خالتي “أم سلمى”واتشح بشجنٍ دامعٍ إذا ذكرتْ كيف تركوا دورهم وديارهم للأبد منذ بدْء بناء السد العالي،وأنا في اللهو لا أعي دلالاتِ ما تقول،أو مشاعرَ مَنْ يعجز عن السفر إلى مكانٍ يحبه!!إلا إن الصغير يكبر ومداركه تتفتَّح،ولأنه كان أحد أعضاء إذاعة مدرسة “السيدة عائشة”الكائنة إلى اليوم في شارع “القفال” فيقرأ في نشرة الأخبار عن بدْء منظمة “اليونسكو”في نقل معابد “فِيَلَة”ومعبد”أبو سمبل” وأن ذلك سيكون من أشهر أعمال “اليونسكو” بـ”مصر” وفي تاريخ المنظمة، تحاشياً لغرق هذي المعابد خلال إنشاء بحيرة ناصر،وكنت كغيري من طلاب مرحلة الستينيات مفعماً بهذا الشعور الجارف تجاه الوطن متابعا أخباره في نشرات أخبار الراديو التي حفظنا مواعيدها عن ظهر قلب أو من الجرائد التي كان ثمنها”القرش صاغ ونصف القرش” ونلتهم ما بها نظراً لأن من الأسئلة الفارقة آنذاك في مسابقة أوائل الطلبة سؤالين في الأحداث الجارية، ولعلي لا أكون مُضحكاً إذا اعترفتُ بطربي الشديد كلما مرت بالخاطر أغاني الستينيات الوطنية؛إذْ تدخل القلب بلا استئذان

(مصر لا تبدأ من مصرَ القريبةْ/ إنها تبدأ من أحجار”طِيبةْ”)(إنها تبدأ منذ انطبعتْ/ قدمُ الماءِ على الأرض الجديبةْ) (ثوبُها الأخضرُ لا يبلى إذا/خلعتْه رَفَت الشمسُ ثقوبَهْ)(إنها ليست عصوراً فهي الكل/في الواحد..في الذات الرحيبةْ)(أرضُها لا تعرف الموتَ فما/الموت إلا عودةٌ أخرى قريبةْ)

وتظل قصيدة”لا أبكيه” للمثير الدهشةَ”أمل دنقل” من الأعمال التي توقف أمامها النقد العربي حديثاً، والمدهش أن”أمل دنقل” -أحد الرايات البارزة في الاتجاه التفعيلي للشعر العربي- التزم البناء الخليلي في هذي القصيدة ولا أريد إطالة النفس فيها بقدر ما أكشف شعورَ الفخر بهذا الوطن. لكنني منذ ذلك الوقت تملكني الإعجابُ بمنظمة”اليونسكو”
باعتبارها منظمةً حسنةَ السمعةِ لم تدخر جهداً في استنقاذ تراثنا الفرعوني خلافاً لما نجده في أكثر المنظمات الدولية من فقدان الإنصاف تجاه كثير من قضايانا لتؤكد هدفاً سامياً أُنشئتْ من أجله وهو: “الإسهام في إحلال السلام والأمن بالتعاون بين دول العالم في مجالات التربية والتعليم والثقافة”

(وكأن الدمَ نِيلٌ آخرٌ/ تستقي منه الرمالُ المستطيبةْ)( كلُّ أبنائكِ يا مصر مَضوا/شهداءَ الغدِ في نُبْلٍ وطيبةْ)(الذي لم يقضِ في الحرب قضى/ وهو يُعطي الفأس والغرسَ وَجِيبَهْ)( والذي لم يقضِ في الفأس قضى/حاملاً أحجارَ أسوان الرهيبةْ)

لذلك لم يكن اعتباطاً أو خلافاً للمنطق أن يكون على رأس هذي المنظمة الدولية الرصينة الآن المصري “د.خالد العناني” هو اعترافٌ عالميٌّ بقيمة
“مصرَ”ودورِها الرياديِّ في مسيرة الحضارة الإنسانية وحضورٌ يمنح المنظمة قوةً دافقة تحقِّق غاياتِها الإنسانية، ويؤكد-بما لا يدع مجالا للشك-نظرة العالم لدور “مصرَ”وحضارتها، وقدرتها على تآلف الأضداد والعلوِّ على الصغائر… ذلك دور “مصر” وذلك قَدَرُها الذي لا تتقاعس عن تأديته في محيطها العربي والإفريقي والإنساني؛ ليكون الختام المؤكِد من الكبير”أمل دنقل”قدرةَ “مصرِ”على تجاوز المحن رغم الثمن الغالي إلا أنها لا تلبثُ أن تشغلَ مكانَها الذي يعجز أحدٌ أن يشغله!!

( اسمعي في الليل أنّاتِ الأسَى/اسمعي حزنَ المواويلِ الكئيبةْ)( إنها أسماء من ماتوا ولم/يبرحوا القلبَ فقد صاروا نُدوبَهْ)(سيعودون فلا تبكي فما/ يرتضي المحبوبُ أن تبكي الحبيبةْ).

بقلم الشاعر محمد الشربيني

Exit mobile version