أميرة مهداوي يكتب: خذوا الحكمة من أفواه المجانين

أميرة مهداوي
كثيرًا ما كان يُشاهد وهو يتجوّل في شوارع ذلك الحي الشعبي، في إحدى مناطق العاصمة…
رثّ الهيئة، متّسخ الثياب، حافي القدمين، شعره كثيف أشيب يبعث على الانزعاج، ويرتدي في معظم الأوقات معطفًا شتويًا حتى في أشهر الصيف الحارّة.
القليل فقط من أهل ذلك المكان كانوا يجرؤون على الاقتراب منه أو التحدّث إليه.
جملة واحدة كانت تتردّد على لسانه بصيغة السؤال:
“معك شيكارة؟”
وكان يقصد بذلك طلب السجائر من المارة، ومعظمهم كان يعطيه القليل منها.
كثيرًا ما كان يختفي عن الأنظار لأيام طويلة، بل وأحيانًا لأشهر.
وحين يظهر مجددًا، يكون بثياب نظيفة، حليق الرأس واللحية، ينتعل حذاءً لامعًا، حسن الهيئة، لا تبدو عليه أي علامات للجنون أو الاضطراب.
لم يكن مريضًا نفسيًا أو مجنونًا بالفطرة، بل كان ضحية التعذيب في السجون الإسرائيلية، حيث أمضى أكثر من عشرين عامًا أسيرًا لدى الكيان المحتل، وتعرّض خلال تلك المدة لصدمات كهربائية متكررة أدّت إلى اختلال قواه العقلية.
لقد نشأ في فترة السبعينيات، في ذروة الصراع والمقاومة ضد الاحتلال.
مررت به ذات يوم من أيام الصيف الحارّة، وكان يجلس في ظلّ شجرة معمّرة عند مدخل الحيّ.
كان لا بدّ أن أمرّ من ذلك الطريق الذي يجبرني على الاقتراب منه، فكنت أسرع الخطى هربًا، لئلا يقترب مني، وكان يحمل بعض المصاحف لبيعها.
وفجأة، انتبه إلى وجودي بالقرب منه، فناداني بصوتٍ مرتفع:
“يااا بنت… يااا بنت! تعالي اشتري مصحف!”
أشرت له بيدي أنني لا أريد، لكنه أكمل بصوت أعلى:
“تعالي خذيه عن روحي قبل ما أموت…”
توقّفت فجأة، واستدرت عائدة نحوه، وكأنني شعرت بالأمان، فقد كان من يحدّثني آنذاك هو صوت الحكمة، لا صوت ذلك المعتوه الذي يراه الناس.
ناولني مصحفًا، ونبّهني قائلاً:
“اقرئي فيه… ولا تهمليه.”
تناولت المصحف وقد ملأني الخجل لأنني لم أستجب لندائه منذ البداية.
حاولت أن أعطيه مبلغًا بسيطًا من المال، لكنه رفض بشدّة، وكرّر عبارته:
“خذيه عن روحي قبل ما أموت.”
صعقتني تلك الجملة… أحسست وكأن كل درسٍ في العطاء تعلمته سابقًا قد ذهب هباءً.
شعرت وكأن تلك الكلمات جاءت من عالمٍ آخر، عالمٍ ما بعد الموت.
كانت درسًا قاسيًا فحواه أن ما تجده بعد موتك هو فقط ما قدّمته بيديك، فما بعد الموت لا أحد ينوب عنك.
افعل لنفسك الكثير، فكل ما تقدّمه لأبنائك أو لعملك أو للناس لن تنال منه إلا القليل.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أسمع تلك الجملة تتردّد في أذنيّ كلّما هممت بعملٍ فيه خير، أسمع صوته يدفعني إلى الإقدام أكثر، ويمنعني من التراجع أو التراخي أبدًا:
“عن روحي قبل ما أموت…”
اقرأ ايضا:
أميرة مهداوي تكتب: مذكرات إمرأة مقدسية