هبة عبد الوهاب: سرقة الأسورة الذهبية… جرس إنذار قبل افتتاح «متحف الحضارة العملاق»

لم تكن واقعة اختفاء وصهر الأسورة الأثرية النادرة من داخل المتحف المصري بالتحرير مجرد حادثة جنائية عابرة، بل جاءت ككاشف فاضح لحالة التراخي والقصور في منظومة حماية تراثنا الوطني. الأسورة التي تعود إلى الدولة الوسطى ذابت في أفران الذهب وسط القاهرة! لتتحول من شاهد تاريخي إلى مجرد سبائك، وسط صمت رسمي وتساؤلات مشروعة.

المفارقة أن الخبر لم يُعلن فورًا، بل جرى التكتم عليه حتى انكشف خلال تحضيرات معرض خارجي في روما. هذا الصمت يطرح تساؤلات حادة: هل كان الهدف تهدئة الرأي العام؟ أم حماية صورة مصر قبل افتتاح «المتحف المصري الكبير» و«متحف الحضارة»؟

مهما كانت المبررات، فإن حجب المعلومات عن الشعب، وهو صاحب الحق الأول في تراث أجداده، يضاعف الإحساس بفقدان الأمان على ما تبقى من كنوزنا.

السرقة جاءت في لحظة شديدة الحساسية، قبيل افتتاح المشروع القومي الأضخم في تاريخ المتاحف المصرية. لكن، كيف يمكن للزائر الأجنبي أن يطمئن، وللمعارض الدولية أن تثق، إذا كانت قطعة نادرة تُسرق وتُذوَّب؟

إذا لم يكن المتحف القديم مؤمَّنًا، وإذا لم يكن العاملون أنفسهم على مستوى الثقة، فما الذي يضمن عدم تكرار الكارثة في المتحف الجديد؟

كيف يكون معمل الترميم بلا رصد دقيق أو كاميرات فعالة؟
وكيف يتم جرد القطع الأثرية فقط في المناسبات الكبرى؟
هذه الثغرات تفتح الباب أمام استباحة التراث، وتؤكد أن منظومة الحماية ما زالت تعتمد على الثقة الشخصية أكثر من التكنولوجيا الحديثة، وهو أمر لا يليق بدولة تمتلك أقدم حضارة على وجه الأرض.

ولأن الأسورة لم تكن الحالة الأولى، يمكن القول أن سرقات الآثار في مصر تحوّلت إلى ظاهرة: تهريب عبر المطارات، فقدان مقتنيات من المخازن، وبيع قطع نادرة في مزادات عالمية بينما الدولة تكتفي بالاعتراض الدبلوماسي. وكأنها الرسالة هى: العقوبة غائبة أو ضعيفة.

كما أن قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته يفرض عقوبة السجن المؤبد وغرامة تصل لعشرة ملايين جنيه على من يسرق أو يتسبب في ضياع أثر. لكن السؤال: لماذا لا تشكّل هذه العقوبات رادعًا كافيًا؟ وهل حان الوقت لمراجعة النصوص القانونية بما يجعلها أكثر صرامة خاصة على الموظفين العموميين المسؤولين عن الحماية؟

الأزمة ليست فقط في الفعل الجرمي، بل في غياب المصارحة. لذا يجب:-
إعلان نتائج التحقيقات بشفافية. ووضع خطة عاجلة لتأمين المتاحف بأحدث النظم التكنولوجية. كما أن إعادة النظر في التشريعات لتشديد العقوبة على الموظف المتورط أمر شديد الأهمية. ويجب ألا نغفل تفعيل الرقابة المجتمعية والإعلامية، لأن التراث ملك للأمة كلها.

أخيرا وليس آخرا إن سرقة الأسورة الذهبية ليست مجرد جريمة ضد قطعة أثرية، بل جريمة ضد الهوية والتاريخ والذاكرة الجمعية. إنها جرس إنذار أخير قبل افتتاح المتحف المصري الكبير: إما أن نعيد بناء منظومة الحماية، أو نستعد لوداع المزيد من الكنوز التي لا تُقدَّر بثمن.
فالتاريخ، إذا ذاب في أفران الذهب، لا يُسترد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى