الناقد أحمد فرحات يكتب: سلمى فايد

الناقد أحمد فرحات

من بعيد يصل صوتها هادئا، عميقا عمق بئر بعيدة، ما إن تقرأ لها، أو تستمع إليها، يجذبك صوتها، واصلا إلى أغوارك البعيدة، ثم تعيد القراءة في استعذاب، وتقف بخيالك عند صورها وأخيلتها الشعرية، فيذهب خيالك معها إلى أقصى مدى تتخيله، تروم وصولا معها، ولا من وصول محقق، بيد أنك تقفز بخيالك إلى محاولة رسم الصورة وتقريبها من مخيلتك، فتشعر للتو أنك أمام قامة شعرية فذة. تأخذك الدهشة برهة تتغلغل في أعماقك ولا تكاد تبرحها إلا وقد أصابت منك رضا وراحة وطمأنينة إلى خصوصية شعرها.

من ثقب إبرة تنظر إلى الكون، تطالع جنات وأنهارا وعيونا، من عمق الظلام الحالك ترى النور ساطعا، ترى جنتها وحلمها المحقق، لا شيء يوقف حلمها إلا وخزات الضمير الحر، ضمير الإنسانية المعذبة. هي روح  شَقِيت بشقاء الإنسان، هي (الشاعر)، والشعر روح معذبة، لا تقر ولا تهدأ، روح متمردة، وفي تمردها تكون خصوصيتها؛ فالتمرد والرفض سمة شعرها كله، فماذا يوجد في الكون -الآن- لا يدعو إلى الرفض؟ كل ما في الكون يدعو إلى الرفض والتمرد. لم تقف عاجزة خانعة بل بخعت نفسها غما وألما، ولاذت إلى الشعر لتبثه شكواها.

لم ترتدي قناعا لتخاطب الناس من خلاله ادعاء مظنة الخوف، ولم تستدعي شخصية تاريخية قديمة أو حديثة، لتحملها ما تود إرساله، فقط انفتح القلب وبان ما فيه، رأت أن عصرها وزمانها ينقصه قلب صادق يلهم ولا يطلب، يرشد بغير لسان، يهدي من غير وعظ، رأت أن الناس يفتقرون إلى نبي، ولن يأتي، فقد ختمت النبوة، ولم تختم النبوءة، لم تصرخ في الناس، ولم تخطب، ولم تعظ، ولم ترشد، بل ألهمتهم إلهام الأنبياء والمرسلين، من غير نبوة، لكنها حملت لهم رسالة، سكنت قلبها الرقيق، فضاق القلب بحملها وعبئها، فلم تجد رسالتها سوى القصيدة، فالشاعر نبي وإن لم يرسل، يرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع، ويتكلم بما لا ينطق، إنها ذاتها الشاعرة، ذات نبي، حمل الأمانة لقومه، وتشوفت نفسه ليعم الخير للناس، كل الناس.

نفسي الجريحة

لم تعد تقوى على حمل النبوءة

لم يكن خطئي العثور على طريق

لم يسر فيها سواي

الحلم مولود يطل علي

في الأفق البعيد

متكاملا ومجملا .. يدنو

ويبرق هاديا إياي

فانتبهت خطاي

وسرت مدلولا به وإليه

يدفعني غد ماض

وتسحبني حبال الأمس

   وكالأنبياء انكسر حلمها غدرا، ولم تنجح مهمتها في توصيل رسالتها، كما تحب، فتلقت طعنات الزمن الغادر في ظهرها.  ثم يضربني الزمان بخنجر في الظهر كي تذوي النبوءة.

ويصل التمرد والرفض ذروته عندما ترفض الواقع المهين، وتمتص شخصية دريد بن الصمة في نصيحة أهله، أو شخصية زرقاء اليمامة من التراث القديم، وتتخذ نبرة خطابية في نصيحتها بني قومها الذين لم يعوا ما تعي، ولم يسمعوا ما تسمع.

لم يسمعوني

حين قلت لهم:

رأيت  حراس المدينة

يشربون دم الضحية..

يوصدون الباب في وجه الحقيقة..

والبلاد تنام في أكفان موتاها.. وترقص

فوق أشلاء القتيل..

لم يفهموني

حين قلت لهم:

النهر يسقي الناس نارا ..

والطيور تساقطت جثثا من الأعلى..

كما تتساقط الأحلام صرعى في العيون..

هذا هو الموت النهائي الكبير..

يسير ملتحفا بوهم لامع..

ولا تخلو دعوتها ونصحها من الدعوة إلى الثورة، وتأجيج المشاعر، بنبرة تحريضية جلية، تماما كما كانت المرأة الجاهلية تفعل في الموثبات الموثبات: هي مجموعة من القصائد التي قيلت لإيغار الصدور، وإلهاب حمية القوم، وإثارة النفوس للمطالبة بالثأر، واستفزاز الرجال لدفع الإهانة التي تلحق بهم وبقبائلهم.  انظر دراستنا للموثبات في الشعر العربي. مؤتمر التراث العربي قراءة جديدة. كلية الآداب. جامعة القاهرة. 2015م.

فتقول عندما لا يصل صوتها إلى قلب مستمعيها:

لم يعد إلا الخروج عن الطريق

                                        أو الجنون.

وإذا تتبعنا هذه النبرة الموثبة في القصيدة بل في الديوان كله ستظهر بجلاء، ولا بأس في ذلك؛ فقصائد الديوان كتبت في فترة من فترات الثورة المصرية، فقد شهدت مصر ثورتين متتاليتين، وكان الجو العام آنذاك جوا ثوريا لكل طوائف الشعب. فقولها تحت عنوان مجاز يؤكد فكرة الثورة والتحريض عليها،: قالوا له أيقن/فأجاب بل ثوروا/أُرسلتُ في قوم/والقلب مجبور/أسماؤهم وهم/وطريقهم زور/باب وأصحاب/والبيت منذور /لو كان لي حظ/ما ردني سور/قَوْلِي بهم غيثٌ/ورؤاهمو بور/نبأ أبلغه/والحظ مبتور ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى