الناقد أحمد فرحات يكتب: الحجيلي ولغة الحداثة

نظرعيد الحجيلي إلى الخارطة العربية فوجدها لما تزل باقية كما هي من عهد الأجداد البواسل إلى اليوم ولكنها تشكو غبار البين، وصهيل الخيول التي سئمت أعنتها التموقع في الخواء، وفوق صهوات الرجاء، وبين أنياب الفِرَق، فيطلب منها ألا تسأله عن شيء:
لا تسأليني
إن في رئة الجواب تورما
وعلى تخوم حقيقة الوجه
المنمق ألف ظن!
إن ضاع جوهر وجهك المغبر
في عصف النداء
وبين أروقة السفن
“فالصيف ضيعتِ اللبنْ”!
فالمثل العربي حاضر بقوة في تلابيب النص الشعري عند الحجيلي، وعليه بنى القصيدة كلها، وختم به النص، لعل في ذلك تذكيرا بماض تليد، أو إرهاصا بمستقبل مهيب، أو توصيفا لحاضر غامض. وطالما أن اللغة القديمة حاضرة بقوة في شعر الحجيلي فلا بأس من تطعيم القصيدة ببعض الأعلام المعروفين، ليكون ثمة تناص بامتياز بين العَلَم الحاضر في النص، والمناسبة الحافزة لذلك، وليس من قبيل التلاص أو تغليف النص.
لكَ اللهُ .. ذاك”سنمار” يرسم
في مقلتيك سؤالا كبيرا:
أيا صاح أين الطريق إلى “المرفأ القرمزي”
وأين المفر؟!!
إن حضور “سنمار” في النص يستدعي بالضرورة، العِلْم والمعرفة والثقافة العربية القديمة، مجسدة في هندسة العربي، وتقديمه ليد العون، ولكنه لقي جزاء داميا، فكان لزاما أن تحضر الأفعال الدالة على الغدر والخداع والقتل، فانظر إلى قوله:
دروبك تُجتث غيلة
في البيد يوأد ضوء القمر
تبذر في الرمل حلما
تحريك بعض الأسماء الجامدة ومحاولة اشتقاق الأفعال منها سمة غالبة في الشعر الحديث؛ فالحجيلي لم يكفه الاتكاء على المعاجم فحسب، بل راح يمتاح من التصرف في بعض الأسماء، وإلباسها روحا ذات أزمان وأحداث مختلفة، فراح يتصرف في الاسم ويغير من ثباته وجموديته إلى أفعال ذات حركة وديناميكية طلبا للعون من اللغة البخيلة. فيبدو الشاعر شديد الظمأ إلى لغة أخرى، يضمنها بثه وشكواه، فاستعار من الاسم اسميته وزاد عليه بتغييره نمطية الاسم فحوله إلى فعل كثير الحركة والاضطراب، انظر معي إلى كلمة سنبلة وهي اسم جامد، فكيف استطاع أن يبعث فيها الحركة والنماء بإسنادها إلى تاء الفاعل، فصارت فعلا دالا على الاسم والفعل معا: سنبلت في دوامة النقع العريق/ سلافة اللحن /الطهور المضطهد. وكذلك الأفعال التالية: تموء-زنبقي-تشجن-تعشب- تتبرعم-تبسّق …
ولعل ظاهرة لغوية أخرى نراها بجلاء في شعر الحجيلي، وهي الأفعال ذوات الدلالات النفسية الحادة، نحو: قشّر-توشّح (بالتضعيف) – تبجّست- تفسّخت- تعشّب-تجلّل-تضجّان-تشعّان-تحدّر-تهشّمت-تهدّجت.تؤزُّه-يكمِّم-يرنِّق-تدثّر وكذلك بعض الأفعال المبنية للمفعول ذات التضعيف أو بدونه: أُجهِضَت-طُمِست-صُوّحت-سِيقت- عُتِّقَتْْ- تتكوّر.. فالشاعر يختار من صيغ الأفعال أشدها تأثيرا، وأثقلها نطقا، مؤثرا الأفعال بحروفها الزائدة على غيرها نحو: اعتمرت- امتلثت – امتشقت – استوطنت – التفتت – اندلقت – يصطخب- يتغابى -.تتبرعم-ابتنى-أتأبّط . ولم يقف عند هذا الحد بل استخدم من غرائب اللغة وشذوذها ما يجعل لقصيدته الالتفات المناسب، فأضاف (أل) إلى الفعل المضارع رغبة منه في لفت الانتباه بشكل مباشر ولافت، نحو: اليتضوّر- اليتعثّر.. انظر معي إلى قوله:
شفيفاً
تساقط قحطي على نخلتين
تضجّان –في صدرك المتوقّد- بالخوف
والهمسات العطاش
تشعّان لحنا حزينا
تحدّر من مهجة تستعرْ
فالأبيات من قصيدة بعنوان “قحط” ، والقحط هو الجفاف واحتباس الماء، فالشاعر يصيب المتلقي بالصدمة والدهشة في تساقط القحط، فبدلا من تساقط الماء، وانفجار ينبوعه ليعم الخير والنماء، فإذا به يصدم المتلقي بتساقط الجفاف، في إشارة منه إلى خواء الذات الشاعرة من عاطفة الحب والانتماء، ثم يستمر في إصابة المتلقي بهذا التساقط الجاف على “نخلتين” ، والنخلتان هنا رمز الشموخ العربي، ومصدر عزته وإبائه، فاحتباس الماء صار متجها إلى كبرياء الذات الشاعرة مؤرقا لها، ضاربا رمز عزته وكبريائه، لأن النخلتين تضجان بالخوف في صدر متحفز، متوقد، ليشيعان أغنية حزيمة يتغنى بها قلب الأمة الحزين، فالأمة العربية التي كانت ترفل في عز وبهاء قد أصابها ما يصيب الأرض الخراب، من امحاء القطر، وذبول الكائنات. وبالنظر إلى هذا المقطع الحزين ندرك للتو دور الأفعال ذات الشحنات الحادة التي أشرنا إليها، فالفعل الأول(تساقط) بدلا من سقط، وما فيه من زيادة في عدد الحروف التي يقابلها زيادة في المعنى، فالاختيار (تساقط) بهذه الصيغة قد حمل شحنة أكير من (سقط) ، لأنه هنا يحمل معنى المفاعلة والمطاوعة مثل قاتل وشارك، وكذلك الأفعال(تضجّان- تشعّان-تحدّر) بالتضعيف، وما عساه أن يضاعف من إنتاج الدلالة بشكل مغاير للأفعال مثيلتها بدون تضعيف.
وأحيانا يأتي الفعل المضارع عند الحجيلي مشابها للاسم، فيدخل أل التعريف على المضارع، وهذا الأمر خاص بالضرورة فقط، ولكنه لجأ إلى هذه الضرورة أكثر من مرة، فأدخل أل على المضارع في قوله:
وفيم التردد؟
ذا سمتك اليتضور عريا
يفتش في حانة الوقت عن ظله
ا ل ز ئ ب ق ي
وقال في قصيدة ” صحوة” :
صاحبي
ليس هذا الدم اليتعثر
في ظاهر الوجه
ص ب ا ح اً
دمك!!
ودخول (أل) هنا ليست كالداخلة على الاسم النكرة لتفيد التعريف، ولكنها هنا بمعنى الذي، وهذا موجود في الشعر العربي القديم، كما في قول الفرزدق:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
فإذا دخلت (أل) على المضارع المبني للفاعل فإنما تدخل عليه لمشابهته اسم الفاعل، وهو كثير في الشعر القديم، ولكنه غير مستحب، وإنما يكون للضرورة فحسب(). ولكن ما الضرورة التي ألزمت الشاعر العودة إلى الوراء واقتفاء أثر القدماء في تناول ظاهرة لم يستحسنها القدماء أنفسهم ودللوا على ضعف مستخدميها، وقلة شاعريتهم، وأن من استخدمها منهم إنما كانت للضرورة الشعرية؟