الناقد أحمد فرحات يكتب: يتم

الناقد أحمد فرحات
حين ولد فجرة، جاء النبأ بين نساء أهل القرية أن ذلك المولود لم يصرخ، بل قدم إلى الدنيا وهو مبتسم وفي ملامح وجهه قطعة من شدو غريب ! … منذ وعيي بالحياة وجد صوته رفيق دربه الذي لم يلتفت إليه أحد سواه . قد كان يغني فقط حين يغيب الجميع..| ذات صباح ربیعي يحمل الفرح انطلق مع شياهه التي تحبه ويحبها، يشته رائحة الطين الذي يغطيه رذاذ ليلة فاضت بالكثير من جود السماء .
يسوق قطيعه أمامه صوب المرعی. ما إن استوى على رابية تطل برأسها على غدير البنات كما يسميه أهل القرية، حتى بدأ يسمع أصوات تلك العصافير الصفراء والخضراء وهي ترفرف على أغصان اللوز المزهرة متماهي مع خرير ينابيع صغيرة تنسكب بهدوء من عالي الجبال. لأول مرة يجد نفسه ممسكا بعود اقتطعه من جذع لوزة جدته علياء التي يحبها كثيرة ؛ كونها الوحيدة التي كانت تبتسم ابتسامة تشع الرضا حين تسمعه يدندن بصوته اليتيم. يموسق العود ببعض أوتار جمعها من هنا وهناك بدأ يعزف
يغني لكل ما حوله يعزف.. تغير العصافير لوها. يغني، فتبال شدوها. يعزف.. يتغير لون الماء والسماء . يغني.. فيقبل أهل القرية بحثا عن هذا الصوت العجيب الذي خطف القلوب اللاهية . يحضن آلته الصغيرة كما تحتضنه جدته علياء حين يؤوب إليها كل مساء. يغني وينغمس في تجاويف آلته ناسيا كل شيء. | يبكي طوووية يغني، فتتبعثر أوتارها؛ حزنة بين أنامله. يذوب جسده النحيل على الرابية يأتي الجميع راقصين لصوته الذي أحيا كل شيء فيهم. ما إن اقتربوا منه، وشاهدوه حتى تفاجأوا به حاضنة لآلته اليتيمة وقد صمتا للأبد!…
من أجمل القصص تلك التي تتخذ الرمز كاستراتيجية أداء، وإذا كانت المباشرة تنقل فكرة الكاتب فإن الرمز ينقل أفكارا شتى، ويكون أكثر التصاقا بذهنية المتلقي، وأكثر تأثيرا، لتعدد تأويلاته، وفك شفراته، فالقصة القائمة على الرمز تعد أكثر إمتاعا من غيرها، ويكون المتلقي فيها أكثر إبهارا وإدهاشا، لما يقوم به من مشاركة حقيقية مع المبدع، منشئ النص.
وقصة “يتم” من ذلك الضرب الذي يعتمد على الرمز كأداة استراتيجية في بنيتها التكوينية، واليتم كما جاء في المعاجم العربية لا يخرج مدلولها عن معنى الفقد؛ فقد الأب، أو الأم، أو كلاهما معا، ومن معانيها أيضا الغفلة وعدم الانتباه.
اتخذت–في القصة التي معنا– اليتم عتبة نصية كبرى، ودارت حول مدلولها الأحداث والمواقف. حيث أشار القاص عبد القادر سفر إلى لحظة ميلاد طفل وصفها بأنها غريبة؛فولد الطفل قجرا، ولم يصرخ كعادة الأطفال الذين في الظرف نفسه، واستبدل القاص الشدو بالصراخ في إشارة منه إلى أهمية الدور الذي يقوم به الطفل الصغير. لم يذكر القاص له اسما، ولم يشر إلى أبويه، بل أشار إلى جدته، ولم يقل جدته لأمه، أو لأبيه، فقد اكتفي السارد باسم جدته علياء، وذكرها نصا مرتين، ونلاحظ اختيار اسم علياء دلالة على العلو والسمو والرفعة، وأن هذه المكانة العالية الشاهقة تحوطه بالرعاية والاهتمام والحنو.
وعى الشاب الحياة وأدركته أحداثها، فغنى لها، ورددت الطبيعة أنينه وشوقه للحياة، أفنى عمره وهو يقدم للبشرية خلاصة تجاربه ومعارفه، لم يعبأ به أحد طوال حياته، ولما أدركوا دوره وأهميته تطلعوا لتكريمه، لكن هيهات أن يكرم إنسان وهو حي! فصمت للأبد، تاركا آثاره ومعارفه وخبراته تتحدث عنه.
إنه شعور بالاستلاب والاغتراب النفسي الذي يعاني منه إنسان العصر، والشعور بالاستلاب ناجم عن عدم الانتباه إلى دوره ومهمته في الحياة ومن هنا عاش الإنسان منزويا على نفسه، مستمتعا باتفراده ووحدته، مانحا الطبيعة والكائنات خلاصة تجاربه وفنه.
يدرك القاص عبد القادر سفر الغامدي أن المباشرة في العمل الأدبي تقتله، وتئد دلالته مبكرا، فلجأ إلى الرمز، للتأكيد على فكرته وبرازها، وحتى يشرك القارئ معه في تأويل الرمز. ومن المعلوم أن الشيء إذا بذل فيه القارئ جهدا وكد ذهنه فإن ذلك يترك أثرا باقيا محببا للنفس