الناقد أحمد فرحات يكتب: مخرج صباح فارس

في الطابق العلوي ببيت جدتي غرفة منعت من دخولها. وحتى لا تراني جدتي، تسللت إليها ليلا. وجدت داخل الحجرة دولابا بداخله مرايا كبيرة تميل للصفرة يكسوها التراب والتجاعيد، وسطحها المصقول جثة باردة.

وحين نظرت إلى المرايا بدت الجدران خلفي مغطاة بالصور .صور تقسیم نحوي. صور قديمة متشققة لنسوة بالأبيض والأسود.

وأخرى زاغت ألوانها؛ صور باهتة الوجوه شابات ترنو نظراتكن بعيدا، فتيات في عمر الورد تعلو وجوههن قترة . شيء ما شدني للمرأة. روح ما كانت تناديني، تصلني بالمرأة. نظرت إليها مشدوهة. وجدتني أمد يدي للزجاج، وما إن لمسته أناملي حتى غاصت كل يدي.

في نظرة خاطفة، رأيت وجه أمي. كانت تبدو في ريعان شبابها. يا الله ! كم كانت جميلة، تمسك بمرود کحل حجري تغمض عليه أهدابها، تغرسه في عينها بوجع مرير. تمتم: “سأحضر زفافك. لن يقع يمينك، سأبدو أجمل من زوجتك الثانية، ضرتي القادمة.” يسيل المطر الأسود على وجنتيها، تعذي: “سأرقص وأنا ذبيحتك المسفوح دمها.” أبعدت يدي عن المرايا، راودني شعور عارم بمرارة في حلقي.

تخطو القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية خطوات كبيرة نحو العالمية، وذلك بفعل كُتابها الذين أفسحوا المجال لهذا الوليد الناشئ، وقد أحاطوه برعايتهم حتى صار الآن شابا يافعا. ومن ثقب إبرة تنفذ صباح الفارسي إلى مملكة القصة القصيرة لتكون أميرة هذا الجنس الأدبي الراقي؛ لما تمتلكه من موهبة فذة في صناعة القصة القصيرة، تجذبك بشدة إلى عالمها الساحر، عالم فانتازي مثير، تمتلك الفارسي خيوط الفن القصصي، وتحركها بمهارة فائقة، لتشكل عالما من السحر والجمال.

امتازت قصص الفارسي بالخروج عن المألوف في لكتابة القصصية، فانتقت الواقعية السحرية لترتكز عليها في صناعة قصة “مخرج” فحركت الجوامد والسواكن، وبثت فيها الروح ، وأعادتها إلى الحياة لترى الذكريات وقد وثبت إلى مخيلتها، ونقلتها بحرفية عالية إلى القارئ، ليعيش معها بعض المشاهد والأحداث التي مرت في أوان سابق، لينشغل القارئ بالمفارقة بين الأمس البعيد واليوم، والغد الآتي، حيث تبدلت الصور، وتمايزت الوجوه، فلم تعد هي هي، ولا الحاضر حاضرا، ولا الصور صورا، فقد أدهشت القارئ بعدة مفارقات قرأ من خلالها حيوات عديدة، ولم يتوقف الزمن ولو قليلا، بل كان نافذا كقوة عليا فاعلة.

وعندها وقفت حائرة مضطربة من خلال عدة تساؤلات وجودية صادقة في نقل الشعور إلى القارئ. “عدت لبيت جدتي، لم تكن في مكانها المعتاد، هل كانت هناك في البدء؟ تسللت للغرفة والدولاب والمرايا حينها رأيت نفسي، ولم أعرفها… كيف وصلت هذه الكدمات على مغصمي، على رقبتي، بل وعلى روحي؟ هل بكيت؟ لا لم أفعل..”  أجادت القاصة في نسج البنية الفنية، فعمدت إلى التكثيف والإيجاز، وبترت حروف العطف المحتملة في البناء اللغوي المرصود، وأجادت في تصوير معاناتها وحيرتها ونقل شعورها الحائر فرسمت على شفتيه دهشة وإثارة نفذت إلى الأعماق.

عبرت الفارسي عن توازن البنية القصصية من خلال زمكانية غير محددة، فالظاهر أن المكان محدود، والحقيقة أنه مكان يتسع لملء فراغ من الذكريات والأحداث والمواقف، فبدا وكأنه زمان متجمد، كما أن الزمان بدا وكأنه مكان متجمد، وتلك عبقرية القاصة وقدرتها على تحويل الزمان والمكان إلى عناصر فاعلة متحركة.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى