الناقد أحمد فرحات يكتب: شيء من الذاكرة

الناقد أحمد فرحات
قبع بيتنا في حارة ذات أزقة تصطف عليها بيوت صغيرة متلاصقة. كثيرا ما أقفز على سطوحها إذا ما أرسلتني أمي لإحداهن . لازلت ذاكرتي تختزل موقفا حدث لي في طفولتي. كنت أجلس على عتبة الباب انتظر قدوم والدي من عمله. كان شارعنا الترابي هو الشريان الحقيقي لتجار المواد الغذائية والمواشي. وبينما كنت أرقب المارة، اقتلعني أحدهم بشدة وامتطى بي حماره هاربة. سمع صراخي، رجل ضئيل رث الثياب وحافي القدمين. ركض بكل ما أوتي من سرعة. لحق بنا عند قناة معشوشبة تفصل الحقل عن الطريق. أمسك اللجام بيسراه وحملني على كتفه الأيمن.
وقفت الدابة وفز صاحبها. أقام والدي مأدبة عشاء كبيرة، على شرف ذلك الرجل الذي أنقذيني. دعا فيها جميع أهالي القرية .. وفي السادسة عشر من عمري، زارت حارتنا فتاة غضة السن، تبدو متألقة في شالها الأسود. تعتل لالا مصنوعة من الخوص. تحوب البيوت لبيعها. قمت بالكثير من الحركات لجذب انتباهها وهي تناول أمي سلة من مبيعاتها . المحتني، افتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة. لمح في وجهها نظرة منهكة . من يومها اتخذت من عتبة منزلنا مركاز؛ في انتظار بائعة السلال. شهر کامل مت قبل عودتها. هذه المرة كانت تحمل أواني فخارية. نفض الغبار عن ملابسي، ورحت أتتبعها…
أتحين انحناءة زنقة للبوح لها. تدخل من بيت وتخرج من آخر. وأنا أتواری خفية. حرصت أن أقل حركتي ما أمكن. اشتهيت التدخين. حميت الشمس وازددت حنق . ها هي تخرج من آخر البيوت. أخذ نفسا من السيجارة، وسحق عقبها . سرت في ظل الجدار حتى نهايته.
في آخر الحارة كهل أقزل، يقف في مئزره المفرط الطول، في انتظارها. لابد أنه والدها ! علي أن افتعل أي حيلة. أسرعت الخطی؛ نادیت بأعلى صوتي : -يا عم؛ یا عم. ما بك!
ألا تريدان أن تشربا في هذا اليوم القائظ ؟ أشار للفتاة الغضة قائلا:
شكرا جزيلا، فزوجتي بحوزتها الطعام والشراب . وراح يحجل على الطريق وهي تتبعه.
محمد مدخلي
عندما يصل الإنسان إلى سن كبيرة أو يتجاوز مرحلة سنية ما تغدو المرحلة السابقة من الذكريات، فتمر عليه أحداثها في هيئة حلم يقظة، أو يقظة حلم، يتألم أحيانا، وينتشي أحيانا، وهو بين الألم والانتشاء يظل ثغره فاترا، مبتسما ابتسامة خفيفة لا هو جاد في تذكرها، ولا هو هازئ بها، بل يظل ممسكا بتلابيب اللحظة غير منكر لوجودها، ولا متجاهلا أثرها عليه.
يستدرج الراوي (العليم) تأملات شاردة مكبوتة أشبه بأحلام اليقظة؛ وهي ظاهرة طبيعية لأنها تحقق الاتزان النفسي للإنسان، حيث إعمال الذهن في تحقيق الرغبات بما يحقق إشباعا على مستوى الخيال، إذ يلجأ الأشخاص إلى خيالهم، ويشردون فيه، كي يحققوا إشباعاً لا يستطيعون تحقيقه في الواقع. وأحلام اليقظة هي أحد أهم ما يتميز به الشباب من ظواهر نفسية. وإذا علمنا أن الشاعر في حقيقته قد تخطى مرحلة الشباب، معنى ذلك أنه يستحضر هذه المرحلة الحبلى بالأمنيات والتطلعات والرغبات المكبوتة، ليعيشها في أحلام يقظته طالما أنه لم يعشها في وقتها. فيبدأ بتوهم من نوع خاص، يتوهم حسناء يناغيها في خياله، وأنها تتجاهل مناجاته.
يمثل الحنين إلى التأملات الشاعرية الشاردة عند المدخلي ضربا من الوهم الذي يؤدي إلى سعادة لحظية، أو إنها تعطينا عالم العوالم، إنها تأملات كونية، إنها انفتاح على عالم جميل ، على عوالم جميلة، وحين تتكثف هذه المادة التأملية الحالمة في نفس المتأمل تسقط التأملات الشاردة إلى سعادة وقتية تعويضا له عما سبق فواته أيام الشباب. وتتشكل مادة التأملات من شوارد ذهنية يذهب فيها العقل مذهب الشباب تارة، ومذهب الأطفال تارة أخرى، ولكنه عندما يفيق يدرك أنه ما حاول اقتناصه من شوارده تلك سوى قصة تؤنسه، ترضيه، فيتبلور الحلم إلى نص سردي هو غاية في ذاته.
الذاكرة التي وردت في عنوان القصة لها دلالة مباشرة بالوعي، والوعي الحقيقي في سن ما يسمح للذاكرة أن تتحرر من قيودها المفروضة عليها، فلا يخجل الراوي من تذكر مواقف وأحداث ربما أثارت السخرية، أو الاندهاش، أو الحزن، أو الفرح، وهو في كل حالة يشعر بالرضا واللذة في وعيه الحي، عند لحظة التذكر، ففي القصة موقفان تذكرهما الراوي أحدهما وهو صغير وتعرض لعملية اختطاف، وأنقذه رجل غريب عنه، فالأطفال الصغار يتعرضون لهذا اللون من الاختطاف والسطو، ومرة أخرى تذكر كيف أعجب بفتاة تبيع سلالا وفخارا، وصفها بدقة حسبما صورت له ذاكرته جمالها اكتفى السارد بتفاصيل جمالها الظاهري، ولباسها الخارجي، وهذا ما كان يدور في خلده أنذاك، عندما كان شابا مراهقا، يدور في خلده ما يدور في أذهان المراهقين.
الصدمة والمباغتة جاءته عندما أدرك بوعي الشباب، أنها زوجة لأحد الرجال كهل أقزم، يقف في مئزره مفرط الطول، فظنه والدها، فكانت المفاجأة في كونه زوجا لها. وهي لحظة تثير السخرية من نفسه عندما استدعى ذلك الموقف في الماضي. والسارد هنا يستدعي الموقفين وفي كل موقف تتجدد سذاجة أولية تطفو على ثغره، إن هذه السذاجة المتيقظة دوما هي التي تقدم لنا الملاقاة الصافية، كما يقول باشلار. وهي سذاجة طبيعية، يجب أن نتذكر هنا أن التأمل الشارد على عكس الحلم، لا يمكن سرده، لنقل التأملات الشاردة يجب أن نكتبها، أن نكتبها بتأثر، بذوق، أن نعيشها من جديد، أحسن من السابق؛لأننا نعيد كتابتها.