الناقد أحمد فرحات يكتب: واحة أمير الشعراء

الناقد أحمد فرحات
زرت واحة أمير الشعراء في حضور وفد عربي كبير، وألقيت فيهم كلمة مسترشدا بالعقاد وميخائيل نعيمة.. «ألا بارك الله في مصر؛ فما كل ما تنثر ثرثرة، ولا كل ما تنظمه بهرجة، وقد كنت أحسبها وثنية تعبد زخرف الكلام وتؤلِّه رصف القوافي، فكم زمَّرت لبهلوان، وطبَّلت لمشعوذ «وطيبت» لسكران! غير أني عرفت اليوم بالحس ما كنت أعرفه أمس بالرجاء، عرفت أن مصر مصران لا واحدة: مصر ترى البعوضة جملًا والمدرة جبلًا، ومصر ترى البعوضة بعوضة والمدرة مدرة، ومصر لها ميزان بكفة واحدة ومقياس بطرف واحد، ومصر لها ميزان بكفتين ومقياس بطرفين، فهي تفصل بين الرطل والدرهم، وتميز بين الفِتر والفرسخ، إن مصر هذه تُصفِّي اليوم حسابها مع ماضيها.»ميخائيل نعيمة.
وقد رد العقاد: «لو لم يكتب قلم نعيمة هذه الآراء التي تتمثل للقارئ في هذه الصفحات لوجب أن أكتبها أنا، فأما وقد كتبها وحمل عبئها فقد وجب على الأقل أن أكتب مقدمتها.» ثم يقول عن مضمون الغربال: «والحق أنني قد وقعت من قراءة هذه الصفحات على قرابة صحيحة وجوار ملاصق في الحي الذي أسكنه في هذه الدنيا الأدبية الجديدة. رأيت قلمًا جاهدًا في طلب الشعر الصحيح، شعر الحياة لا شعر الزحَّافات والعِلل، ورأيته ينعى على الشعر الرث الذي تركنا بلا شعر ولم يبقَ «في حياتنا ما ليس منظومًا سوى عواطفنا وأفكارنا» ورأيته يريد من الشاعر أن يكون نبيًّا ويُنكر أن يكون بهلوانًا، ويريد من الشعر أن يكون إلهامًا وينكر أن يكون «ضربًا من الحَجْل والجمز، والمشي على الأسلاك، والانتصاب على الرأس، ورفع الأثقال بالأسنان، ولف الرجلين حول العنق، إلى ما هنالك من الحركات التي يجيدها القِردة أيما إجادة».
غير أن الناقدين طبقات كما أن الشعراء والكُتاب طبقات، فما يقال في الواحد منهم لا يصلح أن يقال في كلها، إلا أن هناك خُلَّة لا يكون الناقد ناقدًا إذا تجرَّد منها، وهي قوة التمييز الفطرية، تلك القوة التي توجد لنفسها قواعد ولا توجدها القواعد، والتي تبتدع لنفسها مقاييس وموازين ولا تبتدعها المقاييس والموازين؛ فالناقد الذي ينقد حسب القواعد التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده ولا الأدب بشيء؛ إذ لو كانت لنا قواعد ثابتة لتمييز الجميل من الشنيع والصحيح من الفاسد لما كان من حاجة إلى النقد والناقدين، بل كان من السهل على كل قارئ أن يأخذ تلك القواعد ويطبق عليها ما يقرؤه، لكننا في حاجة إلى الناقدين؛ لأن أذواق السواد الأعظم منا مشوهة بخرافات رضعناها من ثدي أمسنا، وترهات اقتبلناها من كف يومنا، فالناقد الذي يقدر أن ينتشلنا من خرافات أمسنا وترهات يومنا والذي يضع لنا محجة لندركها في الغد هو الرائد الذي سنتبعه والحادي الذي سنسير على حدوه.
«إن الناقد مبدع عندما يرفع النقاب في أثر ينقده عن جوهر لم يهتدِ إليه أحد حتى صاحب الأثر نفسه، فكم سألت من هذا القبيل: ليت شعري هل درى شكسبير يوم خط روايته وأغانيه أنها ستكون خالدة؟ أم تراه وضعها يقضي بها حاجة وقتية ظن أنها ماتت بموته؟ إنني من الذين يرجحون الرأي الثاني لذلك يُجلُّون الناقدين الذين «اكتشفوا» شكسبير بعد موته إجلالهم للشاعر نفسه؛ إذ لولاهم ما كان لنا شكسبير.
وفي اعتقادي أن الروح تتمكن من اللحاق بروح كبيرة في كل نزعاتها وتجوالها فتسلك مسالكها وتستوحي موحياتها وتصعد وتهبط صعودها وهبوطها لروح كبيرة مثلها، ثم إن الناقد مولِّد؛ لأنه فيما ينقد ليس في الواقع إلا كاشفًا نفسه؛ فهو إذا استحسن أمرًا لا يستحسنه لأنه حسن في ذاته، بل لأنه ينطبق على آرائه في الحسن، وكذلك إذا استهجن أمرًا فلعدم انطباق ذلك الأمر على مقاييسه الفنية؛ فللناقد آراؤه في الجمال والحق، وهذه الآراء هي نبات ساعات جهاده الروحي ورصيد حساباته الدائمة مع نفسه تجاه الحياة ومعانيها.
أخذ نعيمة يهاجم الأدباء والنقاد المتزمِّتين في اللغة وقواعدها وعلومها، ويرى في تزمتهم هذا ما يشبه نقيق الضفادع، وعنده أن اللغة ما هي إلا مجرد رموز كغيرها من الرموز التي استخدمتها ولا تزال تستخدمها الإنسانية كوسيلة للإفصاح عما يختلج في النفس من فكر أو إحساس، وحسبها أن تستطيع أداء هذه الوظيفة، بل من الخير تبسيط تلك الرموز إلى أقصى حدٍّ مستطاع؛ لأنها كلما ازدادت تبسيطًا ازدادت قدرة على تحقيق وظيفتها في نقل الفكر والإحساس من نفس إلى نفس.
الناقد أحمد فرحات