الشاعر محمد الشربيني يكتب: الزحْفُ..كأنه البعْث!!

الشاعر محمد الشربيني
لم يَدُر بمخيلةِ أحدٍ تحرُّكُ هذي السيول البشرية الجارفة النازفة الأقدام المنتعلة جراح خمسة عشر شهراً من النزوح المستمر والقصف المستمر بشتى أنواع الأسلحة وأكثرها تدميراً..!! لم يدُر في مخيلته أو تصوَّرَها عقله أو توقَّعَها حَدْسُه أن تأتي بهذه العفوية؛فرأينا كبار السن وهم يتوكأون على ما يعينهم، ورأينا الشباب وهم يعينون أصحاب الأعذار بالحمل على الأكتاف ورأينا أطفالاً تشارك الأهل في حمل ما بقي من أغراض.
سائرين في طريقٍ قد تناوبتها القذائف لتصبح أشد وعورةً من عبور المناطق الصخرية مسافة تزيد عن خمسة عشر كيلومتر أو تزيد،بألسنة تضج بالحمد والتكبير والتهليل،وأهازيج تحمِّسُ أقداماً أنهكها طول النزوح.إنها ملحمةٌ حيَّةٌ تؤكد فيما لا يدع مجالاً لمتشكِّكٍ أن قضية “فلسطين”لا مجالَ لمحوها من ضمائر أهلها، وإن تعرضوا لكل أحداث التنكيل والإبادة، وتؤكد للعدو أن الجمر تحت الرماد متوهِّجٌ؛وإن توهًم أن اليأس قد عرف طريقه إلى البعض إلَّا أن المقاومة فكرةٌ لن تموت وإن سال الدمُ مدراراً ونال القتل من جميع الأعمار:
أطفالاً وشباباً وشيوخاً، رجالاً ونساءً ليصدق قول أمير الشعراء:(وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ/يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ)
(كأننا عشرون مستحيلْ/في”اللدِّ”و”الرملة”و
“الجليلْ”/هنا..على صدوركم باقون كالجدار/وفي حلوقكم كقطعة الزجاج..كالصبار/وفي عيونكم..زوبعة من نار/هنا..على صدوركم باقون كالجدار/ننظف الصحون في الحانات..ونملأ الكؤوس للسادات..ونمسح البلاط في المطابخ السوداء/حتى نسلَّ لقمة الصغار/من بين أنيابكم الزرقاء/هنا على صدوركم باقون..كالجدار نجوع.. نعرى..نتحدَّى..ننشد الأشعار/ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات/ونملأ السجون كبرياء/ونصنع الأطفال جيلا ثائرا..وراء جيل)
وتأتي قصيدة”هنا..باقون” لشاعر المقاومة”توفيق زياد” لتؤكد للعالم أجمع أن خطيئة ترْك الأرض لن تتكرر،وأن هذه المدن المذكورة تؤكد أن فكرة الارتباط بالأرض فكرة شعب،ليس فيها تهاونٌ ولو ذاقوا شظف العيش في توفير ما يسد الرمق… والمقاومة فكرة متجذِّرة تتوارثها الأجيال وتمزجها الأمهات حال إرضاع الأطفال،والشاعر”توفيق زياد”من شعراء المقاومة في الداخل من خلال قلمه وشعره ونشاطه السياسي؛فهو من مدينة”الناصرة” وشغل منصب رئاسة بلديتها حتى وفاته،ونال عضوية الكنيست عدة دورات نائباً عن”الحزب الشيوعي”.
ربما يبين في مطلع القصيدة بعض أفكار”توفيق زياد” السياسية رغم انتهاجه مبدأ المقاومة لكنه أميْل إلى المقاومة ذات الإطار السلمي والحصول على الحقوق لعرب الداخل رغم التعنت اليهودي ومحاولة العدو كسْر الإرادة بالسجن وعدم الاعتراف بالحقوق الدنيا لعرب الداخل الذين يعانون عنصرية بغيضة تحت الحكم الإسرائيلي..
ولعل شاعرنا المتوفى في عام1994 لو طال به العمر وشاهد هذا المستوى الإجرامي في محاولة إبادة القضية بقتْل ما لا يقل عن خمسين ألفا من الشعب الفلسطيني معظمهم نساء وأطفال، وإصابة ما لا يقل عن مائة وعشرين ألفا من المدنيين لتخلّى عن أفكاره الرامية إلى التعايش مع سفكة الدماء النازيين الجدد
(كأننا عشرون مستحيل/
في”اللد”..و”الرملة”و “الجليل”/إنا هنا باقون فلتشربوا البحرا/نحرس ظل التين والزيتون/
ونزرع الأفكار كالخمير في العجين/برودة الجليد في أعصابنا/وفي قلوبنا جهنم حمرا/إذا عطشنا نعصر الصخرا/ونأكل التراب إن جعنا..ولا نرحل/وبالدم الزكي لا نبخل..لا نبخل .. لا نبخل/هنا..لنا ماضٍ.. وحاضرٌ.. ومستقبلٌ/كأننا عشرون مستحيل/في “اللد”و “الرملة”و “الجليل”/يا جذرنا الحيَّ تشبَّثْ واضربي في القاع يا أصول/أفضل أن يراجع المضطهد الحساب/من قبل أن ينفتل الدولاب/لكل فعل … اقرأوا ما جاء في الكتاب)
ورغم هذا الوهج البادي في استخدام الشاعر لأعلام المدن الفلسطينيه وتكرارها في الدفقة الثانية مع التركيز على استخدام الجملة الإسمية “هنا باقون للدلالة على الثبوت والاستقرار والإشارة باستخدام “هنا” استحضاراً لكل الأمكنة وبيان شدَّة التعلُّق بها؛إلا أن تغليب جانب المقاومة السلمية جعل التهديد في الختام باديَ الخجل فلكل فعل…ردُّ فعلٍ تركها الشاعر لاستنباط العدو قبل القارئ، إن هذا الشعب المؤمن بحقه في الحياة على أرضه حراً كريماً يدفع إلى اليوم الثمن غاليا من أرواحه ودمائه دون كللٍ آملاً أن يكون قادته على مستوى الحدث أجل..عانى هذا الشعب من استقطاب الأنظمة العربية لفصائله لتمرير أجندات أضرت بالقضية.
كما أنه عانى من ارتباط بعض هذه الفصائل بمشاريع إقليمية..!!والثمن لايدفعه إلا هؤلاء البسطاء الذين يُضحَّى بهم دون مراجعة لحسابات الصدام مكاسب وخسائر..وتساؤل بريء أكانت هجمات العدو بطول “غزة”وعرْضها بقصد استعادة المحتجزين…أم أنه وجدها فرصةً ذهبيةً لاستئصال المدنيين وإبادتهم بقصد تصفية القضية ثم الالتفاف لالتهام الضفة الغربية؟!!إن التعويل على الضمير العالمي وقدرته على إلزام العدو بالكف عن الإبادة ضربٌ من الجنون، كما أن المنظمات الدولية مغلولة اليد في عالم تقوده شريعة الغاب…ليكون الختام لـ”توفيق زياد” شاعر رحلتنا اليوم وقصيدة أراها هي اللوحة الحقيقية لهذي الجموع التي لم تزل تدفع الثمن في رحلة المقاومة الأسطورية..إليكم قصيدته الرائعة..”أتحـدَّى”:
(لا دمي تشربه الأرضُ
ولا روحي تهدا/فاقتلوني.. أتحدّى/واصلبوني..أتحدى
/وانهبوا كسرة خبزي.. أتحدّى/واهدموا بيتي وخلّوه حطاما..أتحدّى وكلوني.. واشربوني
..أتحدّى/وطني..أنت المفدّى/والأماني التي تقطر شَهدا/وطني الحرقة والوجد الذي يأكل عمري/والهوى والضوء في عيني
/والشوق الذي يملأ صدري /هذه الأرض بلادي وسماها ولعي.. حاضري.. مستقبلي..مهدي
..ولحدي..ودمي..لحمي..فُؤادي.. أضلعي/وهي أمي وأبي وهي أبنائي وجدّي وتراثي.. واغاني..وأعلامي ومجدي/بيتيَ العالي وعنوان التحدّي/وأنا الناس الحزانى/وأنا الشعب المعذّب/وأنا العاصفة الهوجاء في وجه المظالم/وأنا النهر الذي يجري ويجري جارفاً كلّ الطغاة/وأنا بركان عشقٍ للوطن/وأنا الخضرة والشمسُ وقطرات الندى/فاقتلوني..أتحدى/واصلبوني..أتحدى/لا دمي تشربه الأرضُ..ولا روحي تهدا!!)