Site icon مباشر 24

الشاعر محمد الشربيني يكتب: مظاهرة الورد..!!

الشاعر محمد الشربيني

الشاعر محمد الشربيني

الشاعر محمد الشربيني

أن تشتعلَ الثورات في مقاومة الاحتلال فذلك أمرٌ جديرٌ بالفخر، وإلا فما معنى الحرية والكرامة والتضحية من أجل الوطن، وكيف يمكن للإنسان أن يمشي رافعاً جبينه ووطنه مستباح الثرى والإرادة..!!

والوطن ليس حفنةً من ترابٍ يسهل الاستغناء عنه واستبداله؛ألسنا نرى الطير يعود إلى عشه كل يوم بعد عناء البحث عن رزقه لا يقعد به إرهاقٌ أو كسلٌ بل يطير آلاف الأميال عائداً في شغف بعد هجرة سنويةٍ، وهو مدركٌ أن ما أفضى به إلى الهجرة سيتجدَّد لاحقاً فَلِمَ لم يستقر في محل هجرته؟!! إنه الحبل السريُّ الذي يصل كل كائن حي بوطنه فلا يرضى بغيره مستقرًَاً ومُقاماً.

وكيف استقبلنا حديث النبي-صلى الله عليه وسلم-حال هجرته إلى المدينة المنورة:لقد نظر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إلى”مكة” مودِّعاً ثم قال:(والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب أرض الله إلى الله وأكرمها على الله.. ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)و”مكةُ” في تلك الآونة دارُ كفرٍ لم يلْقَ فيها غيرَ العنت والاستكبار،ولم يذقْ من أهلها سوى الإيذاء والتكذيب؛لكنه يحبها بالفطرة،وأُجبر على مغادرتها وهو المحب ثراها!!

وأوطاننا العربية من سوء حظوظها أنها محطُّ أنظار المستعمرين المشتهين استغلال ثرواتها والتحكم في إرادات شعوبها والسيطرة على مزايا جغرافيتها؛لذلك ليس بجديدٍ أن تتوالى الثورات العربية لطرْدهم، ليصبح يومُ جلائهم عيداّ وطنيا تحتفي به الدول، وتستعاد فيه بطولات الشعوب في دحر الأعداء،لقد برع أمير الشعراء أيَّ براعةٍ في بيان قيمة يوم التحرير في حياة الشعوب حينما قال:(وَاللَهِ ما دونَ الجَلاءِ وَيَومِهِ/يَومٌ تُسَمّيهِ الكِنانَةُ عيدا).

إن ثورات الشعوب بأبطالها الشعبيين الذين يُغفل التاريخ الرسمي ذكْرَ أسمائهم هم الدم المتجدِّد الذي يُعبِّد الطرق لاستعادة الحقوق،كل الشعوب قدمت أثمن ما تملك في سبيل استقلالها لا فرق بين رجالها ونسائها.

ويأتي المجتمع المصري في طليعة المجتمعات التي بذلت أنفَس ما تملك في سبيل استقلال إرادته وتطهير أرضه من أدناس المحتل، تحفل بذلك الصفحات منذ فجر التاريخ ألم يثُر من أجل ذلك قادته وشعبه لطرد الهكسوس ثم الفرس ثم الفرنسيين ثم الإنجليز؟!!ألم تكن ثورتا القاهرة الأولى والثانية ضد” نابليون بونابرت” ثورة شعبية خالصة قيادة ومقاتلين،ورغم فظائع المحتل لم يُثْن ذلك المجتمع المصري عن إشعال ثورته.

وتأتي ثورة 1919 بتصرُّفٍ شعبيٍّ فريدٍ.. أحسبه جديداً على كل الثورات ألا وهو خروج المرأة المصرية بمفردها لمواجهة الإنجليز، ويأتي شاعر النيل”حافظ إبراهيم”في طليعة من عبروا عن ثورة 1919، وأول من رصد بكلماته المشهد المؤثر الذي عاشته مصر للمرة الأولى، بخروج نسائها في تظاهرة يوم الأحد 16 مارس احتجاجا على ما أصاب الأبرياء من القتل والتنكيل في مظاهرات ثورة 19.

يصف ذلك المؤرخ الكبير “عبدالرحمن الرافعي”في كتابه «تاريخ مصر القومي 1914 (خرجت المتظاهرات في حشمة ووقار، وعددهن يربو على الثلاثمائة من كرام العائلات،سارت السيدات في صفيْن منتظميْن، وجميعهن يحملن أعلامًا صغيرة، وطفن الشوارع الرئيسية في موكب كبير، هاتفات بحياة الحرية والاستقلال وسقوط الحماية، فلفت موكبهن أنظار الجماهير، وأذكى في النفوس روح الحماسة والإعجاب…) لتأتي قصيدة “حافظ إبراهيم”أوّل رصدٍ
لهذا المشهد الثوري:

(خرج الغواني يحتججن/ ورحت أرقب جمعهنهْ) (فإذا بهن تَخذن من/ سود الثياب شعارهنهْ) ( فطلعن مثل كواكبٍ/يسطعن في وسط الدجُنَّةْ).

وأروع مافي مطلع القصيدة تطويع”نون النسوة”لتكون قافية القصيدة والتأكيد على الالتزام بالحشمة والتأكيد على جمال المشاركات من خلال لفظتي”كواكب، الغواني”أي اللواتي استغنين بحسنهن عن التزيُّن وارتداء الحليِّ.

(وإذا بجيشٍ مقبلٍ/ والخيل مطلقة الأعنة) (وإذا الجنود سيوفها/قد صوبت لنحورهنه) (وإذا المدافع والبنادق/ والصوارم والأسنَّة)(والخيل والفرسان قد/ ضربت نطاقاً حولهنه) (والورد والريحان في/ذاك النهار سلاحهنه).

وتأتي السخرية المُرَّة من الاحتلال الذي يستخدم جيشه وسلاحه وسيوفه لتفريق تظاهرةٍ لسيدات لا يحملن سوى الورود والرياحين!!
(فتطاحن الجيشان ساعـ/ـاتٍ تشيب لها الأجنّة)(ثم انهزمن مشتتات / الشمل نحو قصورهنه)(فليهنأ الجيش الفخور/بنصره وبكسرهنه!)
وتنضح ألفاظ القصيدة سخريةً مما حدث، هي معركة غير متكافئة لم تستخدم المتظاهرات سلاحاً سوى الأعلام ولم تنطلق منهن قذائفُ سوى الهتافات،ليقوم”حافظ أبراهيم” بتهنئة جيش الاحتلال على هزيمة جيش النساء وعودتهن مشتتات إلى قصورهن، مصوِّرا عنف وفظاعة المحتل خلال مواجهة سيدات عُزْلٍ، وكأنهم كانوا يقاتلون الألمان في الحرب العالمية الأولى..!

(فكأنما «الألمان» قد/ لبسوا البراقع بينهنه)(وأتوا بهندنبرج مـ/ـختفياً بمصر يقودهنه)(فلذاك خافوا بأسهن/ وأشفقوا من كيدهنه!)

إنها استنهاض همم الرجال وإشعال روح الثورة في النفوس،ورغم أن القصيدة قوبلت بالمنع، فلم تُنشر في أي من الصحف،لكنها طبعت في منشورات وطنية وزعت على الثوار للفخر بما قامت به نساء مصر، لتنشر الصحف القصيدة لأول مرة بعد عشر سنوات من أحداث الثورة وذلك في 12 مارس 1929.

بقلم الشاعر محمد الشربيني

Exit mobile version