بقلم الشاعر محمد الشربيني
خمسةَ عشرَ شهراً مرَّتٔ من بدء العدوان الغاشم على قطاع”غزة “،إذْ لم يكن غاشماً فحسب كمثل سابقيه،وما سبقه إلا صفحات في كتابٍ لا حدَّ له،ولا منتهى لما يُرتكب ضد الإنسانية!أجلْ..إننا لو استعرضنا ما سبق من معارك بين المقاومة الفلسطينية في قطاع “غزة” والعدو-مع الإصرار على استخدام مصطلح “المقاومة الفلسطينية” وليس قصْره على جماعة محدَّدةٍ لأن ذلك ظلمٌ بيِّنٌ وضيقُ أفقٍ ينطلق من توجُّهٍ مسْبقٍَ لا يخدم شمولية فكرة المقاومة-أقول مذكِّراً بما كان في الماضي القريب وكيف فشل العدو في تحقيق هدفه المُعْلَن:
*أطلقت إسرائيل هجوما بريا في ديسمبر 2008 أسمته عملية”الرصاص المصبوب” للرد على انطلاق صواريخ المقاومة على أراضيها،وانتهى بوقْف إسرائيلي إطلاق النار أحادي الجانب حيث قالت:إنها حققت أهدافها بالكامل.. فهل صَدُقتْ؟!
*في نوفمبر 2012 اشتعل الموقف وبدأت أحداث “حجارة السجيل” بهدف وقْف إطلاق الصواريخ والحد من قدرة حماس على تنفيذ هجمات..فهل نجحت؟!!
*في صيف 2014 دارت أحداث”العصْف المأكول” بهدف تدمير أنفاق المقاومة،وردت المقاومة بإطلاق الصواريخ على المدن،وصل بعضها لأول مرة إلى”تل أبيب”و “القدس” فهل تم تدمير الأنفاق كما ادَّعتْ.
*ثم”صيحة الفجر”في نوفمبر 2019،*ثم عملية”سيف القدس ” 2021 للتهديد بإجلاء عائلات فلسطينية من منازلهم في “القدس”،وكذلك اعتداء الجيش الإسرائيلي على المصلين في المسجد الأقصى؛ثم *”الفجر الصادق” في أغسطس 2022..وهكذا تظل صفحات المقاومة بكامل اتساعها،لم تضقْ سطورها لنصل إلى “طوفان الأقصى” 2023 في فجر السابع من أكتوبر؛ليكون أضخم هجومٍ بري بحري جوي تشنه المقاومة الفلسطينية ولم نزل نحيا آثارَه.
(تظلُّ البناياتُ، وهيَ تُهدَّمُ،تغزلُ جدرانها ثمَّ تحضنُ أحبابها تحت قصفٍ شديدْ!!/تظلُّ إذا انفردوا بالسماء تمارس ما كان يفعلُ طفلُ الشواطئ حين يدسُّ يديهِ سريعًا برمل الحياةِ/ويهمسُ: يا أمُّ لا تذرفي دمعةً للرحيلِ
/فكلُّ الزوايا هنا بيتُهم، والبيوتُ إذا انهدَّ جسرٌ أقيم لها آخرٌ من جديدْ!/تظلُّ البناياتُ، وهيَ تُهدَّمُ، أقوى مِنَ الناطحاتِ المُميلاتِ ميْلَ الفسوقِ هنا في البلاد الوسيعةِ..حتى إذا مرَّ طفلٌ بـ”غزة”قال لإخوانه الشهداء:بحثتُ بهذي العوالِمِ عن منجزاتِ الرعاةِ..ولم أرَ إلا العبيدْ)
ويظل الشاعر الفلسطيني “أحمد الخطيب”صوتاً بديعاً موثِّقاً التحولات التي تمرُّ بها المقاومة، مصوِّراً مكابداتِ وتضحيات أبطالها،ليكون شعره نافذتنا الوسيعةَ نرى منها الامتزاج بين البنايات والشخوص بكافة الأعمار.. فكلُّّ البيوت حال تهدُّمها حصونٌ لأحبابها، وتمنح أسباب الخلود ببراءة الأطفال وتهب الثاكلات السلوان والإصرار على النهوض من جديد..لتأتي البراءة ممثَّلةً في عينِ طفلٍ ترى مَنْ حولَها دون مواربةٍ أوتجمًُلٍ..!! أجلْ مرَّ أكثر من خمسةَ عشرَ شهراً فهل تكفي لكسْر الشعب المقاوِمُ كلَّ صنوف الإبادة والاستئصال؟!!، كلَّا ولن تكفيَ القرون لوأْد القضية الفلسطينية!! لأن معظم أهل”غزة” من اللاجئين الذين هُجِّروا أثناء حرب 1948، وصراع “إسرائيل” وسكان “غزة”جزءٌ من صراعٍ أبديٍّ لن ينتهي إلا باستعادة الأرض كاملة من النهر إلى البحر وإنْ بدا ذلك في المنظور القريب مستحيلاً..إلا أن وعْد الله آتٍ لا ريْبَ وإن اجتمع العالَمُ على منْع تحقيقه، إن سكان”غزة”لن يكرروا مأساة التهجير مرة أخرى،ملتصقين بالثَرَى المروي بالدم عبر السنين!!
(ما كنتُ أغزلُ أثوابي وبي وجعٌ/وبابُ بيتي أنا مفتاحهُ وَجَعي)(مِفتاح بيتي ولم يصدأ،فخامتُهُ/دمعي دمائي..ونايُ اللاجئينَ معي)(هذاحديثُ أبي مُذ غابَ منزلنا شاهدت رؤيا وماشاهدتُ،
فاستمعي)(كلَّ المدائنِ صافاها مُهندسها/إلا مدينة عينِ الحزنِ، فارتفعي)(العشقُ عاجلها عن صدرها فَحَمَتْ/بعضَ الأيائلِ من إيماءة الفزَعِ)(العارفونَ سهارى..كان قاربُهم/يمشي على الماءِ لا يخشى مِنَ التُّرَعِ)(هلْ جئتُ بالحربِ أمْ طار الصَّوابُ لها/إني لأُكثر مِنْ خوفي على البجعِ !!)
وتظل أوتار التهجير وصور البيوت التي اغتصبها العدو مشرِّدا أهلَها..أقول تظل أوتار الغربة صاحبة اللحن الملازم الشخصية الفلسطينية..وكيف يمكن نسيانُها وهذي مفاتيح الأبواب لا تفارق الأعناق، وصورُها لا تفارق الأرواح.. ورائحةُ أزاهيرها تعشِّش في الصدور..
حتى وإن صارت المدائن مدائنَ حزنٍ بكثرة شهدائها..هكذا يعزف “أحمد الخطيب” ألحانه لتكون مرايا صادقة تعكس يقينا جارفاً بقرب موعود الله ليأتي الختام رافضاً أن تُمسك بالراية البيضاء يدٌ رغم فداحة التضحيات ليكون هذا السطر الشعري البسيط الشديد العمق صوتاً يخاطب ضمير الإنسانية “قُتلنا..أجلْ..!!ولكننا رغم هذا الدمار..وهذا الحصار.. وهذا البكاء الشديدْ.. سنخلقُ في نصرنا صورةً للبطلْ!!”
(قُتلنا إذًا..ولكننا لا نُواسي توابيتَ فارغةً في البلاد القريبةِ..تلك التي راعها أنْ نؤسِّس في الأرضِ وجهَ الحياةِ الجديدْ/ووجهَ الغريبِ الذي عاش ردحًا.. وفي يدهِ حيرةٌ من بلاد العسلْ/قُتلنا..أجلْ ولكننا رغم هذاالدمار.. وهذا الحصار.. وهذا البكاء الشديدْ/سنخلقُ في نصرنا صورةً للبطلْ/وأنتم إذا ما انتظرتم على فُوَّهات الأجلْ/ستبكون دهرًا على جذلة النارِ، وهيَ تفيضُ على جدولٍ من خجلْ!!).
الشاعر محمد الشربيني