الناقد أحمد فرحات يكتب: النحو
الناقد أحمد فرحات
الحديث عن النحو العربي مليء بالشجن، زاخر بالحزن والألم، فهو علم مهم في حياة العربي وغير العربي ممن يشتغل بمهنة العربية. فبه تستقيم الألسن، وتُفهم العبارة، ولا ينكر فضله إلا جاحد.
وقد استشرى هذا العلم في المؤسسات التعليمية، وزاد الاهتمام به حد الوصف، بل امتلأت صحفنا وقنواتنا الإعلامية والدعائية حد السخف والسخرية من حاملي هذا العلم، وظهر من يدعو إلى عدم الاهتمام به، تأمل قول أ. أحمد عبد المعطي حجازي:
“وبعض الناس يظنون أن اللغة معناها النحو، ولهذا قد يستغربون هذه الضجة التي نثيرها، لأن القيامة في رأيهم لن تقوم إذا أخطأ أحدنا أو أخطأنا جميعاً، فجعلنا الفاعل منصوباً أو حتى مجروراً بدلاً من أن نجعله مرفوعاً كما يطالبنا النحاة به، والحقيقة أن هذا فهم بالغ السذاجة، فاللغة ليست النحو، والمبالغة في الاهتمام بالنحو ليست دائماً دليلاً على نهضة أدبية أو حاسة لغوية يقظة، بل ربما كانت بالعكس دليلاً على ضعف السليقة وانحطاط الملكة.
هكذا رأينا أن عصور الانحطاط التي شهدتها الآداب اليونانية في المرحلة الهلِّينية أو السكندرية كانت مصحوبة بنشاط واسع لعلماء النحو والعروض، وكذلك في عصور الانحطاط التي شهدتها روما في القرن الرابع الميلادي، وكذلك في عصور الانحطاط التي شهدها الأدب العربي في العصر المملوكي، ففي ذلك العصر الذي تراجع فيه الشعر وتدهورت الكتابة ظهر ابن منظور وابن هشام”.
ربما يكون أ. حجازي محقا في جانب، ولكنه تغافل جوانب أخر..
فمن الصعب أن تنحسر المادة اللغوية على الجانب اللغوي المعياري فقط، بل لا بد أن تتجاوز الجامد منها، وتنطلق إلى آفاق جمالية تتسم بقدرتها على النفاذ إلى عوالم الخيال والمجاز وتصور الأشياء بطبيعة غير طبيعتها المادية الصلبة. وقد بدا لنا تصور خطير يتمثل في انشغال المهتمين بالحقول اللغوية الجافة للولوج إلى النص الأدبي شعرا ونثرا، وبدت تطغى المادة اللغوية الحامدة على الجمالي بشكل لافت، أو تحويل مسار الدراسة الجمالية إلى دراسة محدودة تنحصر في الالتفاف حول الجمالي، والمجازي، والخيالي بأدوات محدودة جدا، إذ عالم النص الشعري أو الروائي أو القصصي أو المسرحي يتجاوز اللغة المعيارية للنفاذ إلى اللغة السحرية الخيالية التي لا يتحكم فيها اعتدال المنطق اللغوي المعروف لدى علماء اللغة.
وطالما أشرت إلى أ. حجازي فقد يجدر بي أن أنوه إلى أن لغته في الحياة العادية والشعرية والصحفية من أجمل اللغات وأشدها التزاما بالنحو وأقربها إلى قلبي ..
وربما يعزو ذلك إلى أن بعض الأساتذة المختصين بالنحو العربي يتركون مجالهم وهجره والارتماء في أحضان النصوص الشعرية محللين وشارحين ومدللين على إمكانية التناول بأدواتهم التي لم تعد صالحة وحدها لسبر النص وكشف أسراره، ومن ثم توجيه طلاب الدراسات العليا في قسمي النحو وعلم اللغة إلى تناول المجال النقدي الذي حرموا هم أنفسهم منه بفعل التكالب وراء الكرسي والمنصب الذي عين فيه.
إننا نؤمن إيمانا صادقا بالطاقات الجمالية للغة ، وليست اللغة المعيارية، فاللغة وحدها قادرة على فك أسرار النص الشعري من المجازات والإيحاءات الثرية التي يتشكل النص منها كالحالة النفسية، والسياق العام الذي نشأ فيه ذلك النص الذي أدى إلى التمرد على الشق النحوي الجاف، نحو شيخ النغم المزعوم، وموسيقار البطيخ.
اقرأ ايضا:
الناقد أحمد فرحات يكتب: شرف الخصومة