محمد عبد العزيز يكتب: هـــؤلاء ونلتقي في موعد آخر

لا يتعلم الإنسان ببساطة وإنما ينبغي أن يتلقى دروسا كثيرة قبل أن ينضج و حتى بعد كثرة ما يتعلم لا يصح له أن تأخذه العزة بالإثم فيقول قد علمت، فمن قال قد علمت فقد جهل .

من الدروس الهامة التي تعلمتها في مهنة الإعلام درس الالتزام واحترام المواعيد، و لم يكن ذلك سهلا أو ميسورا ، كما لم تكن مهنة الإعلام هي معلمي الأول الذي تلقيت عنه هذا الدرس .

عملت بالتدريس عدة سنوات قبل أن أهجره تماما و أتفرغ للعمل الإعلامي، و هذا عمل أهم ما يميزه احترام المواعيد و صوت الجرس هو المعيار الذي يضبط الأداء ويلزمك بمراعاة الوقت باحترافية تسمح لك بإنهاء المهمة بالكفاءة المفترضة في حدود الوقت المتاح .

في بدايات عملي الإذاعي سعيت لمقابلة العالم المصري الكبير دكتور مصطفى كمال طلبة خبير البيئة العالمي و المتوفى عام 2016، كان مكتب الرجل في أحد ميادين حي الدقي ، و ما أدراك بزحام الدقي و ما حوله . تم تحديد موعد المقابلة في الثانية عشرة من ظهر أحد أيام العمل ، وصلت في الموعد المحدد ، لكنني فشلت في إيجاد ركنة للسيارة ، و من يتعامل مع هذه المنطقة يدرك صعوبة هذا الأمر ، بل استحالته في بعض الأحيان .

تمكنت بعد لأي – كما يقول أهل اللغة – أن أجد السايس الذي أغراه تلويحي له بمبلغ ضعف ما كان يحصّله في العادة ، فقام بمهمته بعد أن اشترط أن أترك له مفتاح السيارة ، و هو أمر قلّما أقبله إلا في أضيق الحدود، المهم تمت المهمة بنجاح و صعدت لمكتب الدكتور . نظرت مديرة مكتبه لي نظرة لم أفهمها إلا بعد أن انتهت مقابلتي مع الرجل، رحب الرجل بشدة ، و طلب لي الساعي الذي سألني عما أحب أن أشرب ، ثم غادر .

أخذ طلبة يسألني أسئلة أضعها في خانة الود و حسن الضيافة ، و أنا أريد أن أبدأ حديثي معه ، و لكن ود الرجل الشديد منعني من أن أقطع عليه وصلة الترحيب، و حين انتهى أو كاد ، قلت له : أنا جاهز يا دكتور ، فاسمح لي ببدء الحوار .

أجابني بنفس نبرة الهدوء و بصوت ينطق حكمة تعكس سنين عمره التي جاوزت الثمانين حينها : كم الساعة معك ؟ ، فأجبته بعفوية : الثانية عشرة و الثلث . عاد ليسأل: و كم كان موعدنا ؟

هنا فهمت رسالة الرجل ، حاولت أن أشرح له سبب التأخير . قاطعني بلطف قائلا : لا عليك ، أراك شاب نابه ، لكن عندي ارتباط بموعد لاحق ، و توشك النصف ساعة التي كنت قد حددتها لك أن تنتهي الآن ، دعنا نلتقي في موعد آخر .

فاعتذرت منه وأنا في غاية الخجل ، وصرت أكثر حرصا على إجراء الحوار فسألته : و متى يمكن أن نلتقي عوضا عن اليوم ، نادى مديرة مكتبه و طلب منها أن تحدد موعدا لاحقا ، و إن كان قد أوعز لها بأنه ربما يكون الغد و في نفس الموعد مناسبا .

غادرت شاكرا و أنا اليوم أكثر حرصا على مزيد من القراءة في سيرة الرجل و مسيرته . لأعود في اليوم التالي مباشرة و لكنني هذه المرة كنت قد عرفت ظروف المكان و وضعت عيني على أقرب جراج تحت عمارة مجاورة للميدان الشهير ، و لحسن الحظ أنني لم أجد ما يعيقني أو يعطلني هذه المرة ، لدرجة أنني بقيت أسفل المكتب لنحو ربع ساعة قبل أن أصعد للمقابلة في الموعد المحدد، بل بدقائق محدودة .

استقبلني الدكتور طلبة هذه المرة بذات البشاشة التي كان عليها بالأمس ، و أجريت معه حوارا أفضل مما كنت أتوقع بعد أن انتهى غرض المقابلة استأذنته في المغادرة ، فوجدته يربت على يدي قائلا : قسوت عليك بالأمس، و لكنك تعلمت الدرس اليوم ، فقلت له : و غدا أيضا يا دكتور . رحم الله العالم الجليل دكتور مصطفى كمال طلبة ، رحم الله الكبار .

اقرأ ايضًا:

محمد عبد العزيز يكتب: هؤلاء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى