“ليلة رائعة لقطار”.. مجموعة قصصية للقاص أحمد ثروت

من المجموعة القصصية ليلة رائعة لقطار للقاص أحمد ثروت

لا فرصة للملل أن يلمس قلوبنا، فألعابنا في الشارع متباينة، لا نكاد ننتهي من لعبة حتى نبدأ أخرى جديدة. نلعب بالبلي وحده أكثر من ست لُعبات مختلفة، أتذكر قوانينها جميعاً، “الطسّة” و”الشبر” و”المثلث” و”جوز والّا فرد” و”الترنجيلة”، أتذكر أيضاً أسماء ألعاب الكرة، مثل “صياد السمك” أو “البلوطة” أو “كرة القدم العادية” التي سميت بعد ذلك بالخماسية.

عادةً ما كان يبدأ يومنا بعد زوال قيظ الظهيرة، ويمتد –بلا راحة- إلى ما بعد منتصف الليل؛ فنحن في إجازة من المدارس منذ شهرين أو أكثر، وبعضنا لم يدخل المدارس بعد، أو لن يدخل المدارس أصلاً.

هكذا كان جيران جدتي، التي أقيم معها معظم أوقات السنة، لظروف عمل أمي. أشعر بالانتماء؛ لهذه المنطقة الشعبية وسط المدينة الصغيرة، أكثر من انتمائي للشارع الذي أقيم فيه مع والدّي –حيث تغلق كل أسرة بابها على نفسها طوال اليوم.

عددنا لا يقل يومياً عن عشرة أطفال، نركض ونصرخ كصغار القرود ، نزداد أحياناً لنصبح عشرين طفلاً، حيث ننقسم لمجموعات مستقلة، كل مجموعة تمارس لعبتها المختارة، وأحياناً ما نتناقص حتى نصبح ستة أطفال فقط –هم سكان بيت جدتي العتيق- نروح ونجيء، نركض ونلهث، نتعرق ونخلع ملابسنا العلوية، ولا يوقفنا شيء عن اللعب، حتى لو كان صراخ أمهاتنا وهن تدعوننا للطعام، طالبات منّا أن نأكل ما يسد رمقنا.

في ذلك اليوم البعيد، أصرّت أمي أن أذهب للدرس، ورغم عدم اقتناع جدتي بجدوى ذهابي حتى لا أنسى الحروف والأرقام، إلا أنها رضخت في النهاية مضطرة، وهي تقول لي ” ساعة تمر سريعاً.. أنت ولد مجتهد، ولن يضرك الدرس شيئاً”.

لم أحب أبداً الذهاب لهذا المدرس، بسبب طول الطريق، دون أن يرافقني أحد من أصحاب الشارع، كما لم أحبه أيضاً؛ بسبب قوة ضربة عكازه، الذي يهبط فوق الساقين أو الذراع، بسرعة ومفاجأة. متأففاً، حملت كتابي وكراستي تحت إبطي، متحركاً ببطء، مودعاّ الشارع الصاخب، بينما رفاقي يسخرون مني؛ لأني مطيع أنصت لكلام أمي دون جدال أو صراخ.

وسط الشارع نظرت يساراً نحو “عمرو”، الطفل الوحيد من أطفال الشارع الذي لم يشاركنا ألعابنا، ولو مرة واحدة. كان يشير لي بكفه الصغير، وهو واقف ملتصق ببوابة بيتهم الحديدية الضخمة، تغطي وجهه الدائري الصغير، عدسات بلاستيكية لنظارات ذات إطار ملون. لم يكن “عمرو” يتحرك من أمام بيته طوال اليوم، إلا لدخول الحمّام أو تناول الطعام، ثم يعود سريعاً لمكانه الأثير.

نعرف أنه يتيم بلا أبوين، وأن إخوته يكبرونه بأعوام كثيرة، حتى أن أخاه الأكبر كان متزوجاً، وله طفل في عمر “عمرو”، لكننا لم نر هذا الطفل أبداً –فقط سمعنا عنه من “عمرو”- لم يسمح إخوة “عمرو” له بالتحرك أبداً من أمام البوابة الهائلة.

حين نظرت إليه ابتسم، فابتسمت له، ثم تقدمت نحوه بخطوات واثقة، وفكرة شيطانية تُلاعب رأسي. عرضت عليه أن نذهب للدرس ونعود سوياً، لكنه كان خائفاً جداً من فكرة تحركه، فأصررت على إقناعه أننا سنذهب للدرس ثم نعود سريعاً، دون أن نحضر الحصة –فقط سنذهب ونعود- أخذت أقنعه أن يجرب شيئاً جديداً سريعاً، غير وقفته المملة هذه.

تحرك “عمرو” جواري بخطوات مترددة، لكنني جذبت يده وأنا أحثه على الإسراع، حتى نعود قبل رجوع أخيه من العمل.

لم أفكر فيما سيحدث بعد ذلك، فكل ما اهتممت به، أن يرافقني أحد في هذه الرحلة المزعجة. -لا تخف.. دقائق ونعود، يا صاحبي. لم يكن “عمرو” يعرف شيئاً عن الشوارع أو الطرقات التي تبعد عن شارعنا، ولم يكن له ليعرف ذلك؛ بسبب سكونه الدائم أمام منزله طوال الوقت.

كلما دخلنا شارعاً جديداً، أو التففنا من حارة ضيقة؛ أكاد أسمع صوت ضربات قلبه تتسارع وتعلو، لكنني أطمئن فوراً؛ بسبب ابتسامته الهادئة، التي لا تغادر وجهه المستدير.

شاهدت المدرس منتصباً خارج حجرة الدرس، يحث التلاميذ الواصلين على الدخول، بضربة على القفا، أو نغزة في الذراع؛ فجريت سريعاً، من منتصف الشارع حتى وصلت داخل الحجرة، تاركاً “عمرو” بالخارج وحده.

نسيت صاحبي أثناء الدرس، وأنا أجيب الأسئلة، أو أرفع إصبعي للاستفسار، أو أمد يدي لتتلقى ضربات العكاز. ثم عدت لمنزل جدتي بعد ساعتين من وقت الدرس، متجولاً بين الشوارع، أراقب بائعي التين الشوكي، أو بائعي الدوم، أو أنظر نحو السماء أكوّن من سحبها أشكالاً خيالية.

بمجرد دخولي شقة جدتي –أغلقت بابها الذي لا يُغلق أبداً- وأمرتني بعدم النزول للشارع. لم أكد أعترض وأطلق بكائي وصرخاتي، حتى قرصتني جدتي من أذني، وقالت لي “أين ذهبت بعمرو يا ابن المراكيب؟، لقد كسر أخوه عظامه فوق بعضها، بعد أن جابوا الشوارع باحثين عنه. هذا الولد أفضل منكم جميعاً؛ فلم يعترف بجُرمك، بينما أصحابك القرود هم من فضحوك”.

مرت أربعون سنة على هذه الواقعة، راحت في رأسي وجاءت مرات متناثرة، كذلك راحت جدتي وراح منزلها. سافرت للخارج وجبت بلاداً كثيرة، عملت في وظائف متباينة، وحصلت على شهادات عدة، تزوجت وأنجبت طفلين. لكنني ذهبت أمس لشارعنا القديم، لمعاينة الأرض موضع بيت جدتي، حتى أشتريه من بقية الورثة.

حين مروري اتجهت عيناي بلا إرادة مني نحو منزل “عمرو”، بوابته الحديدية الصدئة. كان يقف أمامها رجل أربعيني، يبتسم ابتسامة هادئة مريحة، فوق وجه مستدير، تعلوه نظارة بإطار معدني، يحمل طفلاً فوق كتفيه، وهما ملتصقان تماماً بالبوابة الحديدية، أشار لي بيديه وهو يبتسم، “اتفضل يا صاحبي”.

درجة أولى في اللحظة التي بدأت فيها قدماي عبور الحد الفاصل، كانت يد المحّصل فوق منتصف صدري تماماً.

“تذكرتك”، هتف في وجهي، متوقعًا عدم وجود تذكرة معي، أو على أكثر تخميناته تفاؤلًا، يراني منتمياً لعربات الدرجة الثالثة. ملابسي المهلهلة ولحيتي المهوشة، لا يوحيان بانتمائي لهذه العربات المتقدمة في القطار. إنها عربات الدرجة الأولى المكيفة. لكنني نظرت نحو عينيه مباشرةً، وأبرزت تذكرتي ببطء، دون كلمة واحدة.

حين انهار توقّع المحصل، لم يستطع سوى أن يشير لي بعيداً عن باب العربة محددًا موقع مقعدي. مقاعد جلدية سميكة، هواء مكيف صناعيًا، وهدوء تام.

كل ما لم أشاهده سابقًا في رحلاتي اللانهائية، على عربات قطار الدرجة الثالثة؛ فلا بائع للعسلية، ولا امرأة تلقي أذكار الصباح والمساء، أو علب المناديل الرخيصة فوق فخذي. لا صراخ ولا ضحكات أو نحيب.

جلست منتظرًا الراكب الذي سيجاورني، وأنا أحلم باكتمال المتعة، فلتأت فتاة جميلة، رقيقة، تلتصق بي طوال الطريق. وهكذا أخرجت كتابي، متظاهرًا بالانشغال التام به، مُدعيًا وجهًا جامدًا لمثقف يعرف كل شئ، بينما أحلم معيدًا تشكيل ذاكرتي، بأفلام وحكايات مبهجة. اصطدمت بي ذراع سمينة أوقفت شريط الحلم الناعم.

كانت لرجل ممتلئ لاهث، يحاول إبعادي عن طريقه، حتى يستطيع الجلوس جواري، دون أدنى اعتبار لأحلامي.

من المجموعة القصصية ليلة رائعة لقطار للقاص أحمد ثروت

اقرأ ايضا:

كرم الصباغ يشارك في معرض الكتاب بـ” عطر السرد وجمره.. قراءات نقدية في الرواية العربية”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى