طارق الحريري يكتب: شيوخ الاستنارة رواد الغناء والموسيقى

طارق الحريري

لا يصعب على من ينقب فى التاريخ الفنى المصرى الحديث أن يعرف أن بدايات نهضة الموسيقى والغناء المصرى فى العصر الحديث تمت على يد مشايخ ومتعلمين فى الأزهر، منذ أن كان التعليم قبل مجيئ محمد على مقتصرا كتاتيب ومعاهد التعليم الدينى، لكن حب الفن والولع بالغناء لم تحجبه أو تعرقله الفتاوى المتزمة والأراء المتشددة.

المعلم الأول هو الشيخ “محمد عبد الرحيم المسلوب” الذى ولد فى قنا قبل مجيئ الحملة الفرنسية على مصر بسنوات قلائل، أتم دراسته فى الأزهر بعد حضوره للقاهرة، مالبث بعد إنهاء تعليمه الدينى أن اجتذبته الموسيقى فصارت مبتغاه، سطع نجمه حينما استطاع أن يخرج بالموسيقى من القوالب القديمة السائدة، واستطاع أن ينحت للأغنية خصائصها الوطنية حينما لجأ للموروث الشعبى، هو المؤسس ورب قالب الدور، الذى تبناه الجميع من بعده، أغنية المسلوب “يا حليوه يا مسلينى” التى غناها سنة 1850 مازالت تغنى حتى الآن لكل من يصدحون بلغة الضاد، ترك ثروة هائلة من الأدوار ومنها “العفو يا سيد الملاح”، “البدر لاح في سماه”، و”أسيل خدك يتعاقب بخاله ويسحر العين”، بلغ من مجد هذه الأدوار أنها مازالت تغنى حتى الآن فى فرق الموسيقى العربية وتدرس فى معاهدها، نتيجة زعامته للموسيقى والغناء تقلد وهو العالم بالمقامات العربية والإيقاعات الشرقية منصب “شيخ أرباب المغاني” أى نقيب الموسيقيين بلغة العصر، يعود إنجازه التاريخى فى أنه صنع للمصريين مسارا يخصهم فى الغناء، وأثبت التوثيق العلمى أنه صاحب أول موسيقي مصرية خالصة، ومن ثم دونها قائد الموسيقات العسكرية الأميرالاى “محمد ذاكر بك” كي تعزفها فرقة الحرس الخديوي.

ولد المسلوب فى القرن الثامن عشر وعاش القرن الثامن عشر وتوفى فى القرن العشرين عن عمر يناهز 130 سنة بعد أن أحدث ثورة فى عالم الغناء والتلحين.

شهد القرن التاسع عشر مولد وتألق المشايخ من عظماء الفن ولم يكن كلهم من الأزاهرة، فبعضهم كانوا منشدين ومؤذنين وحفظة للقرآن ، منهم ، خليل محرم (شغل وظيفة كبير المقرئين بالقاهرة)، وأحمد الشلشمونى، وعلى القصبجي (والد الملحن والعواد العظيم محمد القصبجي)،ويوسف المنيلاوي، وأبو العلا محمد (استاذ أم كلثوم)، ودرويش الحريرى، وعلى محمود (قارئ مسجد الحسين الأساسي)، وزكريا أحمد.. والقائمة تطول،.

هؤلاء المشايخ الفنانون كلهم بدءوا معممين وكثير منهم ارتدى لاحقا الملابس العصرية، كلهم تتلمذوا على يد الشيخ المسلوب أو تأثروا به أو بتلامذته، وبلغ من جبروت تمكنهم من مقامات الموسيقى العربية أن الشيخ على محمود كان يرفع آذان يوم الجمعة ولا يكرر نفس المقام الذى أذن به إلا بعد أشهر طويلة، ومن المفجع أن بيننا الآن من يعتبرون أستخدام مقامات الموسيقى فى الآذان بدعة.

شيخان أتيا من الإسكندرية أحدثا نقلة كبيرة هما سلامة حجازى وأخر عنقود المشايخ العبقرى سيد درويش، أولهما قارئ القرآن ومؤذن مسجد الأباصيري فى حى بحرى، انتقل للقاهرة وفيها اعتلى قمة المجد فى الغناء، وفى نقلة نوعية ينتقل سلامة حجازى إلى المسرح، حيث طور بأدائه المسرح الغنائى وبلغ فيه من النجاح ما جعله يمثل مسرحياته على خشبة دار الأوبرا، ويؤرخ له بأنه رائد فن الأوبريت لما يتمتع به من خصائص فى صوته.

أما الشيخ سيد درويش “فنان الشعب” المجدد وباعث النهضة فله مقال آخر يليق بدوره ومكانته.

طارق الحريري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى