بقلم: السيد عبد الصمد
مصباح البرهمتوشى
في زمن صعب كثرت فيه الثرثرة الشعرية وفى حيز أضيق من أن تصعد منه للنجومية وفى مشهد أصبح فيه شاعر جديد كل أمسية نستطيع أن نقول أن الشاعر الحقيقي هوالشاعر الذي يعرف جيدا متى يصمت ومتى وأين يلقيقصيدة الدهشة .
والشاعر مصباح البرهمتوشى شاعر دقهلوى يمتلك أدواته الشعرية ويكتب شعر الفصحى جيدا لدرجة كبيرة جعلته قادرا على التحرر من أسر اللغة الدارجة شعريا فجعلته غير قادر على التخلص من استعمال نفس الألفاظ الرصينة والكلمات العتيقة التي استعملها سابقوه من الأوائل ومع ذلك قد يطربنا بنغمة لم نعهدها من قبل وكل هذا يتضح جليا فيكل قصائده الشعرية التي أرى أنها مرهقة لغويا بشكل كبيرلنا وله وقد يتفق معي الكثير من الزملاء والمحيطين بنا فيذلك .
وللغة البرهمتوشى دورا كبيرا في إثارة الوجدان والمشاعروالفكر لأنها قد تحرك في نفس المستمع أو القارئلأشعاره استجابات انفعالية وعقلية معينة والولوج إلىأعماق النفس البشرية المعقدة
والسمة الغالبة على معظم أشعار البرهمتوشى هي اللوعة
واللوعة عنده هي بمثابة مفردة ثابتة فى قصائده تعبر عنالشكوى و الحزن والوجع عند نظمه للعشق وللذات وللوطن وللناس وللمجتمع
فاللوعة حرقة بالفؤاد وألم يصيب الإنسان من حزن وهم وعشق أو نحو ذلك .
ويقول البرهمتوشى في قصيدته ( غيمة النسيان )
يا غيمة النسيان هلمي و أبشري / ف على ديار الهوى رزحت دفاتري
فلا وفتني حقي ب أبيات خضبت / في الذهن عبارات و رقت مشاعري
ظننتها ظمأي لا تعرف الهوي / و هي تهوى من لقي حتفه الغابر
يا غيمة النسيان شقي أضلعي / أخرجي من عهني طيفها الغادر
كم حسبت نفسها على غي الهوي / و أفاضت أبياتي ك نهر هادر
فندت كل أقوالي التي / تحاكي الهوى من لدن حائر
وفى هذه القصيدة يناجى البرهمتوشى غيمة النسيان وكأنه لا يرى دواء للوعته أفضل من النسيان وقد يرجع ذلك لشعوره بفتور في العلاقة بينه وبين الأخر فيرغب في الابتعاد قليلًافيتعجل النسيان ويبشره بضعف وسقوط دفاتره على ديار الهوى لأنها لم توفه حقه أو ما كان يأمل فيه وذلك من خلال أبياته الشعرية التي يرى أنها نبتت واخضرت وتغير لونها للأفضل والأصح والتي صارت فيما بعد بنهاية القصيدة إلى نهر هادر .
كما يقول
كم حسبت نفسها على غي الهوي / و أفاضت أبياتي ك نهرهادر
فندت كل أقوالي التي / تحاكي الهوى من لدن حائر
واللوعة هنا هي لوعة المكابدة في الحياة وعدم التقدير للشاعر والاعتناء به و ما يمر به من لحظات قاسية ومؤلمةيرغب البرهمتوشى في التخلص منها بنسيانها فكان لا بدله من أن يتناسى تلك المواقف الصعبة أو شيء مؤلم مر بهفي حياته معتقدا أنه بتحقيق النسيان قد تأتى السعادة لكي يستطيع أن يكمل المسيرة الحياتية وهذا في جوهره شيء أجمل .
وفى قصيدة أخرى ينادى فيها رتب ومنازل معشر الشعراء يقول البرهمتوشى .
إلى مصاف معشر الشعراء / أبدو كما العهن القديم
فلا من أيك أستظل به / و لا رحلت كما السديم
و لا جاءت هنا زينه / و لا رأت سوي غريمي
فهي تشدو كل ليلة / و ما اهتدت الي حليمي
على شاطئ من كسبان أروي / هاك ظلمي و هاك ضيمي
تلك حياتي وكسبان الهوي/ و تلك ظلمة الليل البهيم
على حدائق غلب قد خوت / أقمت وحدي ك عنقاء الرقيم
أين من هدبي مدن الجوي / و أين أقتات بعض الهشيم
قد أذهب كما رماد و قد أستوى / على دار من نسق أليم
أحتضن الألآم و قد هيأت / إلي قضمي ف لحقت نعيمي
من بين تلك النواصي أهملت / أن تدهمني و تلتهمني ك لهمالصريم
قد ذهبت مني القوافي فلا فصلت / عذاباتي أبقي ك شططالسديم
وقد وصف الشاعر مصباح البرهمتوشى نفسه فيها بالعهن القديم أي الصوف المصبوغ المتهالك الذى لا يجد شجرة وارفة الظلال ليستظل بها ولا رحل كما الضباب الرقيق وأنه مازال على شاطئ من الكسبان يروى ظلمه وذله .
بقوله .
على شاطئ من كسبان أروي
هاك ظلمي و هاك ضيمي
وهنا تكمن لوعة الشاعر في إحساسه بالهوان والظلم والذل ونظرته الحقيقية للحياة على أنها ليست إلا ثورة الشاعر علىظلمه وهوانه
ويبدو من خلال تلك القصيدة إيمان البرهمتوشى الراسخ بأن الشعر في أزمة حقيقية وأنه يرى أن المشهد الشعرى الأن مشهد عبثي هزلى
فهو يشكو من عدم الإنصاف وعدم تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص كغيره من الشعراء اللذين لم يأخذوا دورهم في النشر وعدم تسليط الأضواء عليهم والظروف الاقتصادية الصعبة والمحن الحياتية المريرة وغير ذلك مما يعانيه الشعراء
كما ظهر في القصيدة رصد البرهمتوشى لحالة منحالات قبول الانكسارلديه وما سيتبع ذلك من خسائر فادحةقد تذهب به لتصوره لنفسه أنه في يوم ما قد يذهب كما الرماد وقد يستوى على دار من نسق أليم كما في قوله .
أين من هدبي مدن الجوي / و أين أقتات بعض الهشيم
قد أذهب كما رماد و قد أستوى / على دار من نسق أليم
إن القارئ الجيد لقصائد البرهمتوشى يجد جزالة الألفاظ واستعماله للغريب منها ومتانة التركيب لديه حتى بدت القصيدة مرهقة كما ذكرت من قبل وأنه قد نحتها خالصة من لوعته وشكواه وأن معظمها تمثل شكلا من أشكال الإبداع المر على طريقة البرهمتوشى الخاصة في التعبيرعن الألم والغضب والذل والحسرة ملتزما بشكل لائق بالوزن والقافية متمتعا بالصدق الثرى في تصوير العاطفة لديه فيحين تطغى ظاهرة الحزن والألم والانفصال عن الواقع بغضبه عليه ومحاولاته في الهروب منه.
مصباح البرهمتوشى