رشا لاشين تكتب قصة “حكايات من قلب العتمة إلى نور الحرية”

رشا لاشين

“عندما تشرق الشمس من جديد: يوميات معتقل سوري في رحلة العودة إلى الحياة”

في ظلامٍ أشبه بالعدم، حيث تنعدم الحدود بين الليل والنهار، وبين الحلم والواقع، وُلدت حكايتي. كنتُ هناك، في زاويةٍ ضيقة داخل زنزانةٍ لم تُراعِ حتى أبسط مقومات الإنسانية. في هذا السجن، كان الصمت حليفنا الوحيد، لكنه لم يكن صمت الراحة، بل صمت الموت البطيء، حيث تتسلل أصوات الأنين من خلف الجدران كأنها نغماتُ حياةٍ لم تُكتمل.

الحياة بين القضبان

لم تكن الأيام تُعدّ بالساعات، بل بالآلام. كل وجبةٍ هي اختبارٌ جديد للصمود؛ قطعة خبز يابسة، وشربة ماء لا تُروِي عطش الجسد الذي أضناه السُبات على أرضٍ باردة. ورغم قسوة المكان، لم تُطفأ نار الأسئلة في داخلي: لماذا أنا هنا؟ ماذا ينتظرني؟

كان الألم يتجاوز حدود الجسد ليغوص عميقًا في الروح. تساوت الأيام، وصار الليل رفيقي الأبدي. حتى الأمل بات شيئًا أضعف من أن يُشعل ولو شمعةً في هذا الظلام. ومع ذلك، كنت أُراوغ القدر بذكرياتٍ صغيرة: لحظةُ ضحكٍ مع أصدقائي، أو رائحة القهوة في صباحٍ عابر.

التحرر… والشمس التي لم أكن أعرفها

في يومٍ بدا كغيره، جاء صوت غريب من الخارج: “انهض، لقد انتهى كل شيء”. تملكني الذهول. هل يعقل أن هذه اللحظة حقيقية؟ خرجت وأنا لا أصدق أنني أعود للحياة. الضوء كان شديدًا على عيني، كأنه يُعيد تشكيل كل شيء داخلي. لأول مرة منذ سنوات، شعرت بالدفء يلامس جلدي.

العالم كان مختلفًا. الأشجار التي كانت ذات يوم عادية صارت أشبه بلوحةٍ مرسومة بعناية، وأصوات البشر التي كنت أستصغرها في الماضي أصبحت سيمفونية كاملة من الحياة. لكن رغم هذا، بقيت أُصارع داخلي شبح الذكريات.

ظللت أنظر وأتأمل وجوه هؤلاء الرجال الذين جاؤوا ليحررونا، محاولًا أن أستوعب أن اللحظة حقيقية. كانت وجوههم مزيجًا من الصلابة والرحمة، تحمل آثار المعارك التي خاضوها، وعيونهم تشع بالأمل الذي فقدناه منذ زمن. أحدهم اقترب مني ووضع يده على كتفي قائلاً: “لقد انتهى الكابوس، أنت الآن حر.”

الحرية… كلمة لطالما بدت لي بعيدة المنال، أشبه بحلمٍ جميل لا يُتاح إلا في عالم الخيال. كنت أسمع صوت الرجل، لكن عقلي كان غارقًا في دهشة اللحظة. أحقًا تحطم نظام الأسد؟ أحقًا انتهت تلك السنوات التي كانت كفصولٍ طويلة من الجحيم؟

نهضتُ من مكاني بصعوبة، قدماي بالكاد تحملانني بعد أن اعتادتا الأرض الباردة والقيد الثقيل. خرجنا في صفوف متعثرة، ننظر حولنا كمن يرى العالم لأول مرة. الأفق كان واسعًا، والسماء الزرقاء بدت غريبةً علينا، كأنها لا تخصنا.

لكنني حين رأيت النور لأول مرة بعد سنواتٍ من العتمة، أدركت أن الحرية ليست مجرد خروجٍ من السجن. الحرية هي القدرة على الحلم من جديد، على أن تؤمن بأن الغد يحمل فرصة للحياة.

كان الطريق إلى الخارج مليئًا بالأنقاض، لكنه بدا كأنه يُعيد رسم معالم أرواحنا المتكسرة. كنا نحمل في داخلنا بقايا ذكريات، وأطياف وجوهٍ غابت في العتمة ولم تحظَ بفرصة النجاة.

وفي تلك اللحظة، تعهدت لنفسي أن أكون صوتًا لهم، أن أحكي قصصهم للعالم، أن أُعيد بناء ما تهدم ليس فقط في وطني، بل في داخلي أيضًا. الحرية ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها، ولأننا خرجنا من غياهب السجون، فقد أصبحنا أكثر إصرارًا على أن نكتب تاريخًا جديدًا، بعيدًا عن الظلم، مليئًا بالإنسانية.

الكتابة كنافذة للحرية

قررت أن أحكي. الكلمات كانت رصاصتي في وجه الصمت، وسلاحي الوحيد لاستعادة ذاتي المفقودة. كتبت عن المعتقلين الذين لا يزالون يقبعون هناك، عن الألم الذي تجاوز الأجساد ليحطم الأرواح، وعن الأمل الذي يظل رغم كل شيء.

لم أكتب فقط لأجلهم، بل لأجل نفسي أيضًا، لأستعيد إنسانيتي، ولأخبر العالم أن خلف القضبان يولد الأبطال، وأن كل جدارٍ عازلٍ يحمل حكاية تستحق أن تُروى.

الخاتمة: رسالةٌ إلى من يقرأ

إنّ الحياة بعد المعتقل ليست مجرد نجاة، بل ميلاد جديد. هو ميلادٌ مُشبع بوعيٍ عميق أن كل شيءٍ عادي هو نعمة، وكل شهيق هو إنجاز. رسالتي لكم هي ألا تنسوا أولئك الذين ما زالوا هناك، في عتمةٍ تكاد تخنق أحلامهم. كنتم أوصياء على حريتهم، كما كنتُ أنا شاهداً على ألمهم.

لعلّ الكلمات تُحدث فرقًا، ولعلّ الحكايات تعيد تشكيل الوعي. من رحم المعاناة تولد قوة، ومن ظلام الزنازين تشرق شمس الحرية.

رشا لاشين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى