رشا لاشين تكتب: عبق الذكريات في الاسماعيلية
رشا لاشين
في كل مرة تخطو قدماي شارع الجيش في حي الإفرنجي بالإسماعيلية، يتسرب إلى قلبي دفء حنينٍ قديم. هذا الشارع لم يكن مجرد طريق عابر، بل لوحة رسمها الزمن على إيقاع ضحكات الأطفال، وروائح الطهي، وهمسات الأمهات عند الأبواب.
أتذكر طفولتي هناك، تلك الطفلة الشقية التي كانت تركض حافية القدمين، بشعرٍ مشعث وعينين تلتمعان بالفضول. كان صباحنا يبدأ برائحة الخبز الطازج التي تتسلل من أفران الحي، وأصوات عربات الخضار التي يجرها “عم صبحي”، الرجل الطيب الذي كان ينادي بأسماء الأمهات وكأنه يوزع البهجة مع الخضروات.
كنت أستيقظ على وقع الحياة الصاخبة الممتزجة بالبساطة. بيتنا الصغير في شارع الجيش كان يحمل رائحة الطفولة، وجدرانه تحفظ صدى ضحكاتنا وصخبنا البريء. كل يوم كنت أنتظر أبي بفارغ الصبر خلف الباب، أترقب وقع خطواته. وما إن أسمع صوته، حتى أقفز أنا وإخوتي نحو الباب هاتفين: “بابا جاء!”
كان أبي شامخًا ببدلته العسكرية، ملامحه تحمل تعب اليوم، لكنه يبتسم ابتسامة دافئة تسكن قلوبنا. أسأله ببراءة الطفولة: “بابا، جبت لي إيه؟” لم أفهم حينها كم كان يجاهد ليحمل لنا عالمًا نقيًا مليئًا بالحب والدفء.
معالم الطفولة
كانت أيامنا تضج بالحياة. نركض في أزقة شارع الجيش، حيث كان “عم داوودي” بائع الفول بعربته البسيطة بطلًا في صباحاتنا. كنا نتسابق نحو عربته حين يقرع الجرس، أيدينا الصغيرة تمتد بسعادة لنأخذ الساندويتشات الساخنة. كانت رائحة الفول الممزوجة بالزيت والليمون عطرًا صباحيًا لا ينسى.
وفي أمسيات الجمعة، كانت العائلة تجتمع لتقضي يومًا في حدائق محمد علي. تلك المساحة الخضراء كانت جنتنا الصغيرة، حيث كنا نركض بين الأشجار العالية، نقفز فوق المروج، ونقف أمام النوافير التي تهمس لنا بحكايات قديمة. كنت أجلس تحت شجرة ظليلة، أنظر إلى السماء وأحلم بمستقبل لا أعرفه.
أما نادي الدانفاه، فكان ملاذنا في الصيف. رائحة البحر التي تلف المكان، صوت المراكب الصغيرة وهي تتهادى فوق الماء، وضحكات الأطفال التي تمتزج بصوت ارتطام الكرة على ملاعب التنس، كلها كانت تخلق عوالم من البهجة لا تنسى.
وجوه لا تُنسى
محلات شارع الجيش كانت عوالم صغيرة بحد ذاتها. هناك “جروبي” برائحة الحلوى التي كانت تداعب أنوفنا ونحن نمر، وبائع الجرائد الذي كان يعرف كل أخبار الحي قبل أن تصل إلينا، و”عم طارق” الفكهاني بابتسامته الواسعة. كان يعرف أسماءنا جميعًا، ويُضيف دائمًا “تفاحة زيادة” للأطفال.
ومع مرور الزمن، تغير كل شيء. أصبحت أعود إلى هذا الشارع ليس كطفلة، بل كغريبة تحمل حقيبة مثقلة بالذكريات. أبواب البيوت الخشبية التي كانت تفتح على عالم من الدفء أُغلقت، وواجهات المحلات القديمة استبدلت بزجاج بارد لا روح فيه.
لكن بين كل هذا التغير، لا يزال شارع الجيش يحمل عبق الماضي. كل زاوية تروي حكاية، وكل طيفٍ فيه يذكرني بمن غادروا.
أتوقف أمام بيتنا القديم، أنظر إلى الباب الذي لم يعد كما كان، وأسمع صوت أبي في مخيلتي وهو يفتح الباب بعد يوم شاق. أغمض عيني وأستعيد اللحظة، لكنني أدرك أن ما كان لن يعود.
اليوم، أمضي في الشارع وقد ملأتني الذكريات. تلك الأزقة، الحدائق، والرائحة التي تلتصق بالهواء، كلها تعيدني لطفلة صغيرة كانت تركض بين الماضي والحلم. شارع الجيش قد تغيّر، لكنّ روحه القديمة باقية، تنبض في كل خطوة.
رشا لاشين