الناقد أحمد فرحات يكتب: شرف الخصومة
ليس من النَّبالة والإِنصاف أن تهاجم من لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ويردَّ عليك قولك، وقد أمرنا ديننا في مثل هذه المواطن بالمكاشفة والمواجهة، يقول ربنا عزَّ وجلّ يخاطب نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } [الأنفال: 58]، أي فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر.
وجاء في حديث سلمان الفارسي الذي أخرجه الترمذي وأحمد: “وإن أبيتم نابَذْناكم على سواء”، أي كاشفناكم وقاتلناكم على طريق مستقيم مستوٍ في العلم والمنابذة، منا ومنكم.
للخصومة شرف فحافظ على شرف الخصومة مع خصومك، ومن لا يملك شرف الخصومة لا يملك الرجولة. وأقلها المواجهة، أما الكلام بعد إقامة سدود عدم التواصل فأنت لست فارسًا.
وللموت حرمة بل حرمات، وللحظر احترام ونبل فلا تضربه من وراء ظهره وهو لا يملك الدفاع عن نفسه.
فالرجل يكون منصفا إذا صرح ببغضه وكراهيته بناء على بغض وكراهية الطرف الآخر؛ فهذا الفضل بن العباس يقسم أنه على خلاف دائم مع الطرف الآخر؛ فالآخر يبغضه، ويصر على كراهيته، ويرى نفسه أعلى شأنا من الشاعر، وعلى ذلك فالشاعر يبادله بغضا ببغض، وكراهية بكراهية..
مَهْلاً بَني عَمِّنَا مَهلا مَوالينا
لا تَنبِشُوا بَينَنا ما كَانَ مَدفونا
مَهلاً بَني عَمِّنا عَن نَحْتِ أَثلَتِنا
سِيروا رُوَيداً كَمَا كُنتُم تَسيرونا
لا تَطمَعوا أَن تُهينونا وَنُكرِمَكُم
وَأَن نَكُفَّ الأَذى عَنكُم وَتُؤذُونَا
اللَهُ يَعلَمُ أَنّا لا نُحِبُّكُمُ
وَلا نَلومُكُمُ أَلّا تُحِبّونا
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ في بُغضِ صاحِبِهِ
بِنِعمَةِ اللَهِ نَقليكُم وَتَقلونا
فإننا لا نرى عيبا في جهارة الفضل بن العباس بعداوة خصمه كما يجاهر الخصم، ويعلن عن عدم حبه له كما أعلن خصمه تماما، وعندئذ أنصفه بشجاعة.ومن خلال مواجهة هذا بذاك وليس من وراء حجب أو خلف شاشة زرقاء تتسم بالجبن والخسة والدناءة.
وقديما ظلموا الذئاب؛ فألبسوهم ثياب الغدر والخيانة وعظموا الكلاب! والذئاب لو تعلمون لا يغدرون ولا يأكلون الجيفة، لا يخون الذئب زوجته، ولا زوجته تخونه، ولا يتزوج المحارم؛ فتحفظ الذئاب أنسابها، ولا تنجب ولدا مِن كل مَن يمر عليها، يضحي الذئب بحياته من أجل قومه، ويلقب بالابن البار بوالديه، فيصطاد ليطعمهم في خريف العمر.
فأنتم تخافون مواجهة خصومكم وجها لوجه خشية أن يأتوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، فتزيغ أبصاركم كالذي يُغشى عليه من الموت، ثم يتركونكم فإذا أنتم ضُحكة الضاحك وهُزءة المستهزئ، فنُنْشدكم قول طرفة بن العبد:
يا لكِ من قُبَّرة بمَعْمَرِ
خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصفِرِي
ونَقِّري ما شئتِ أن تُنَقِّري
قد رَحَلَ الصيادُ عنك فابشري
ورُفع الفخ فماذا تحذري؟
ثم ننشدكم أيضاً قول المهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً الذي كان يُضرب به المثل في العزة المتناهية، وكان من خبره أنه إذا حضر مجلسه الناس لا يجسر أحد أن يفخر أو يجاذب، إعظاماً لقدره وإجلالاً لشأنه، فلما مات قال المهلهل:
نُبَّئتُ أن النار بعدَك أُوقِدَت
واستبَّ بعدك يا كليب المجلسُ
وتكلَّموا في أمر كلِّ عظيمةٍ
لو كنتَ حاضر أمرهم لم يَنْبِسُوا
فأنت إذا أمنت عدم المواجهة وبقيت وراء شاشتك الزرقاء تكون كما قال شوقي:
انسلّت المهرة من قيدها
وأفلت الطير من الصائد
اقرأ ايضا:
الناقد أحمد فرحات يكتب: وصايا الشر