الناقد أحمد فرحات
كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس، هل سبق شوقي عصره عندما أقر بحق الدار بأهلها واستثنى منها الخبثاء والخائنين؟
والدار هنا هي المرأة المؤسسة للبيت والقائمة على رعايته، فتصير ملكة متوجة على عرش زوجها وأولادها، إلا في خبيث الأفعال والصفات، فتطرد من جنتها وتلوذ إلى محكمة الأسرة بغية أن تكسب قطة وتخسر بقرة.
وإنما يعرف فضل الزوجة الصالحة إذا ماتت، عندها نجد الزوج يذكر محاسنها وفضلها، ولكن هذه الظاهرة عند الشعراء القدماء محفوفة بالحذر الشديد، ويعدونها عيبا ومنقصة تقلل من كبرياء الرجل. ولذا عيّر الفرزدق جريرا لرثائه زوجته:
إن الزيارةَ في الحياةِ ولا أرى
ميتا إذا دخل القبورَ يُزار
ورثيتها وفضحتها في قبرها
ما مثلَ ذلكَ تفعلُ الأخيارُ
والجريمة التي ارتكبها جرير أنه رثا زوجته على استحياء وكأن رثاءها منقصة وعيب فقال:
لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ
ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ
بينا نرى آخر يجأر بالبكاء والتفجع مستذكرا أولاده بعد موت أمهم:
يا دَهْرُ فِيمَ فَجَعْتَنِي بِحَلِيلَةٍ
كَانَتْ خُلاصَةَ عُدَّتِي وَعَتَادِي
إِنْ كُنْتَ لَمْ تَرْحَمْ ضَنَايَ لِبُعْدِهَا
أَفَلا رَحِمْتَ مِنَ الأَسى أَوْلادِي
وفي الحديث رثا الشعراء زوجاتهم رثاء حارا ينم عن عاطفة قوية جمعتهما.. فهذا عزيز أباظة يقول:
فقدتك زوجة وأخا وأختا
وأما بارة وأبا وخِدنا
وإذا تجول في مسكنه طالع صورها هنا وهناك:
تطالعني بك الصورُالتوالي
فينشطر الفؤاد لها نشطارا
إذا قمنا لمائدة مساء
وإن قمنا لمائدة نهارا
يطالعنا مكانك وهو خال
فتبتدر الدموع لها ابتدارا
نحيط به ونوسعه حنينا
وتقديسا لذكرك وادكارا
أما عبد الرحمن صدقي فلم يمهله القدر ليلة عرسه:
على باب بيتي وقبل السحر
على باب بيتي دق القدر
ويقول آخر بعد أربع سنوات زواج:
سنوات أربع أم كان ذا حلما حلمته
ليه طال! ولو طال لما كنت سئمته
أحرام أن سعدنا أم خيال ما زعمته
كل ما أعرف أني كان لي بيت عدمته
وتتجلى الصورة الإنسانية في قصائد د.محمد رجب البيومي ذات الأنين الحار في غزله لها بعد موتها؛ فالغزل من أعف ضروب الشعر، والرثاء من أحر ضروب الشعر، والموت أحق شيء في الحياة، فإذا اجتمع الغزل والموت والزوجة فقد انفتحت نافورة دماء لا تتوقف أبدا، ويقف المتلقي أمامها معتبرا، مستلهما، مستمتعا، حزينا.
متغزل أنا فيك رغم مصيبتي
مهما يضج الناقد الثرثار
تأمل إصراره على التغزل في زوجته حتى بعد مماتها، ولم يأبه برأي الناقد الذي وصفه بالثرثار، ولكني أطمئن الدكتور بأن الرثاء نفسه هو مدح في الميت، ولاسيما إذا كان في الزوجات فإنه غزل. ومن ثم نلحظ رؤيته للبسمة الرقيقة، والنظرة العطوف، والهمة الطموح، في إشارة منه إلى أيامها معه، ومجرد ذكر هذه الأوصاف الحسية فإنه بمثابة تفجير لمشاعر الحب عبر ينابيع الذكرى. فيقول:
أيام بسمتك الرقيقة بلسم
والجرح فيّ دامي الحشا نغارُ
أيام نظرتك العطوف سكينة
للنفس بات يرجها الإعصارُ
أيام همتك الطموح تقيلني
إن طاف بي ضعف ولج عثارُ
وأنا الضعيفُ فمن يعينُ
كهولتي بشبابه إن حاقتِ الأخطارُ
وفي البيتين الأخيرين لمحة إنسانية عجيبة، فهو يشير إشارة كاشفة إلى أنها صغيرة، وماتت صغيرة، وهو من كان يظن أنها ستعيش وتحمل ضعفه إذا وهن جسده خارت قواه، فإذا الأقدار تلعب دورها فيعيش الكبير ويموت الصغير، ويحمل هو همها ما دام حيا. ومن ثم فإن الأبيات جنحت إلى النزعة الإنسانية بمفهومها الواسع؛ فالنزعة الإنسانية نسق من الفكر أو الفعل يعتبر أن المصالح والقيم والكرامة الإنسانية لها الصدارة.. حيث أكدت جدارة الإنسان الجوهرية وكرامته ومقدرته، فالإنسان هو مركز الكون، وأنه جدير بأن يحيا حياة العقل والكرامة والأخلاق، وأن السعادة من حقه.
رحم الله كل زوجة أخلصت لبيتها وأولاده ولم تترك للمجتمع أطفالا مشردين!
الناقد أحمد فرحات
اقرأ ايضا: