الناقد أحمد فرحات يكتب: وصايا الشر
الناقد أحمد فرحات
جمع أبو النجم بناته الثلاثة وأوصاهن .. وَمَا وصّيت بِهِ الأولى وَكَانَت تسمى برّة قَالَ:
أَوصَيتُ مِن بَرَّةَ قَلباً حُرّا
بِالكَلبِ خَيراً وَالحَماةِ شَرّا
لا تَسأَمي ضَرباً لَها وَجَرّا
حَتّى تَرى حُلوَ الحَياةِ مُرّا
وَإِن كَسَتكَ ذَهَباً وَدُرّا
وَالحَيَّ عُمّيهِم بِشَرٍّ طُرّا
فقد أوصى الأولى بإهانة حماتها، بأن توسعها ركلا وضربا وجرا على (وشها)حتى ترى حماتها منها (العين الحمرا) حتى إن كستها حماتها حريرا وألبستها ذهبا فلا يمنع ذلك أن تغرس أظفارها في وجهها ..
أما الثانية فقد أوصاها بسوء معاملة زوجها وأمه فقال:
أوصيكِ يا بِنتي فَإِنّي ذاهِبُ
أوصيكِ أَن تَحمَدكِ القَرائِبُ
وَالجارُ وَالضَيفُ الكَريمُ الساغِبُ
لا يُرجَعُ المِسكينُ وَهوَ خائِبُ
وَلا تَنى أَظفارُكِ السَلاهِبُ
مِنهُنَّ في وَجهِ الحَماةِ كاتِبُ
وَالزَوجُ إِنَّ الزَوجَ بِئسَ الصاحِبُ
وأما الثالثة فقد أوصاها بأن تسب حماتها وتضربها…
سُبّي الحَماةَ وَاِبهَتي عَلَيها
وَإِن دَنَت فَاِزدَلِفي إِلَينا
ثُمَّ اِقرَعي بِالوَدِّ مِرفِقَيها
وَاِوجِعي بِالفَهرِ رُكبَتَيها
وَرُكبَتَيها وَاِقرَعي كَعبَيها
وَمِرفَقَيها وَاِضرِبي جَنبَيها
وَظاهِري النَذر لَها عَلَيها
لا تُخبِري الدَهرَ بِهِ اِبنَتَيها
وَأَغلِقي كَفَيكِ في صُدغَيها
(الفِهْر: هو الحجر يملأ الكف)
سمع هذا الشعر من أبي النجم ثم قيل له: ما هكذا أوصى يعقوب ولده! قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب، ولا بني كولده!
ومن وصايا الشر أيضا وصية“دُوَيد بن زيد“، تقول كتب التاريخ والأدب: إنه جمع أولاده عند موته، ثم قال لهم: “أوصيكم بالناس شرّاً، لا تقبلوا لهم معذرة، ولا تقيلوهم عثرة، أوصيكم بالناس شراً، طعناً وضرباً، وما احتجتم إليه فصونوه، وما استغنيتم عنه فأفسدوه على من سواكم، فإن غش الناس يدعو إلى سوء الظن، وسوء الظن يدعو إلى الاحتراس”.
وفي الحياة الشعبية المعاصرة فلازلنا نسمع مثل هذه الأمثال كل يوم: اللي معاه قرش يساوي قرش – اللي معاه قرش ابنه يزمّر – القرش الأبيض ينفع في النهار الأسود – وأنا ما لي يا عم هو أنا خلفته ونسيته – ويبقى ابني على كتفي وأدوّر عليه؟ – ويالله نفسي نفسي – ويا روح ما بعدك روح – واللي يعوزه البيت يحرم على الجامع – وخالتي وخالتك واتفرقت الخالات.
بل سمعنا أشد من ذلك كله في تسويغ البخل والإِعراض عن نجدة الناس والبر بهم، والنظر إلى المصلحة الذاتية فقط، وهو قولهم: “عيش ندل تموت مستور“، فهي هي طبائع البشر في كل زمان ومكان، وإن اختلف التعبير عنها.
أما وصية أبي النجم في التشديد على الحماة والإِغلاظ للزوج، فما زلنا نسمع من هذا وذاك الشيء الكثير، وأظن أنه لا يغيب عنك: “يا مأمنه للرجال يا مأمنه للمَيّه في الغربال”..تقول الأم لابنتها قبل انتقالها لبيت الزوجية: “خلي بالك من المَرَة القرشانة اللي اسمها أمه، إدِّيها على دماغها أول بأول كده، مَتِسْكُتِلْهَاشْ أحسنتركبك”، أو تقول لها عن زوجها: “إوعي منُّه، ربنا يستر، والله أنا خايفه، دا باين عليه ابن أمُّه”.
ومن وصايا الشر إذاعة السر وإفشاؤه كقول الشاعر:
ولا أكتم الأسرار لكن أبثها
ولا أدع الأسرار تقتلني غمّا
وقول الآخر:
وأمنعُ جارتي من كل خير
وأمشي بالنميمة بين صحبي
وبعد: فهذه صور من الصدق مع النفس، سلوكاً وكلاماً منثوراً ومنظوماًوأمثالا شعبية، امتلأت بها حياتناكآلهة النقد المعاصر أو القديم،وامتلأت بها “بعض يومياتنا المعاصرة القادمة من الأرياف”.. وآثارنا التي تثيرها بفظاظة وغلظة وبسوءووقاحة وشر .. فتعرض الحياة كلها بخيرها وشرها، وبياضها وسوادها،وتلك طبيعة الحضارات العظيمة!
الناقد أحمد فرحات