” العِقْد” قصة قصيرة للكاتب شحتة سليم

الكاتب شحتة سليم

في اليوم الأول لاستلام العمل جلستْ، تسيطر عليها رهبة المكان والموقف، عيناها الحائرتان تنظرُ في كلِّ الاتِّجاهاتِ، صامتة معظم الوقت، ابتسامتها قلقة، مكتبها الجديد مقابل لمكتبي القديم في نفس الحجرة، تلاقتْ عينانا في نظرة عابرة خاطفة، لم نقصد ولم نرتب لهذا، لكن سريعًا وبتلقائيةٍ شديدةٍ رجعتا مرة أخرى للتلاقي، كأنَّنا نعرفُ بعضَنا منذُ زمن، يحاول كلٌّ مِنَّا العودة بالذاكرة، لكن دون جدوى.

رحَّبتُ بها، وهنأتُها على عملها الجديد، وحاولتُ طمأنتها بأنها ستكون سعيدة معنا، وأن كُلَّنا إخوة، ثم عرفتُها بنفسي، وبزملائنا في نفس المكتب الذين حاولوا جاهدين إضفاء جوٍّ من المرح على المكان للتخفيف عنها، شكرتْني وإياهم بابتسامتها الخجلى المتوترة، ثم بدأتْ بصوتٍ خفيضٍ تستفهمُ عن العمل المسند إليها وكيفية القيام به.

كانتْ أسئلتُها موجهةً إِليَّ بحكم خبرتي الطويلة، أو إِنني الأقدم في المجموعة المتواجدة، كنتُ أجيب عن الأسئلة متجنبًا النظرَ في عينيها، أو كأني لا أراها، رويدا رويدا بدأتْ تتخلصُ من الخَوفِ والقلقِ الذي سيطرَ عليها في الأيام الأولى، زادتْ ثقتُها بنفسها، لا تحتاج لتكرار الكلام مرة أخرى، صوتُها بات مسموعًا للجميع.

منذُ اللحظةِ الأولى في المرَّةِ الأولى التي تلاقت فيها عينانا تأكدتُ وأقررتُ وبصمتُ بالعشرة بأنني وقعتُ فعلًا في الشَّرَك، والمتبقي هو مجرد محاولات يائسة بائسة للحفاظ على ما تبقى من هيبة، أو كما يقال هي حلاوة الروح، ليست أكثر، وأنها مسألة وقت فقط، طال أم قصر، وسينهدم هذا الجدار المسمى بالاحترامِ والوقار الذي أحيطُ به نفسي.

ساويرس: فيلم ماري اختلق أحداثا تاريخية ودينية حول رحلة العائلة المقدسة

فعلًا بمرور الوقت وتعدُّد جلسات العمل، وتكرار الكلام بيننا، بدأ القلق والتوتر يسيطرُ عليَّ أنا، بغريزة المرأة ربما أحسَّت بهذا، وفي الحقيقة لم تكن تحتاج لغريزة ولا غيره، يكفي فقط أن تنظر في عيني لتعرفَ عني كلَّ شيءٍ، كنتُ واضحًا جدًّا، وضوحًا مخيفًا، أخشاه على نفسي؛ فليس عندي ما أخفيه، أو أستتر به عن النَّاس، أشبه بإنسانٍ عارٍ أمامَ الجميع.

كانتْ فيها ملامح كلِّ الجميلات بدايةً من العصر الفِرعَوني وعيون نفرتيتي حتى العصرِ الحديثِ وعيون سُلاف، ضحكتها التي تهدر بداخلي حتى يومنا هذا كالشلال، صوتها النغم، أسنانها المصفوفة كحبات الذرة تبرق مع الضحكة فتضيء عتمة الليل، خفة دمها وهي تتدلل، روحها التي تتجلى في المكان، صورة حية للجمال المتحرك في كل صوره.

أيام قليلة مرَّتْ، فكَّرتُ كثيرًا في مصارحتها بإعجابي بها، بالرغم من أن كلَّ شيءٍ كان يؤكِّدُ لها أو للآخرين الذين يعرفوننا، أن الأمر يتخطى حدود الإعجاب بكثير، أصبحتْ سيرتي على كلِّ لسانٍ كما يُقال، حتَّى إِنني كثيرًا ما أضبطُهم وهم يتغامزون ويضحكون لتصرفاتي وردود أفعالي مَعَهَا.

لم أخجلْ منهم أو منها، ليس في الحبِّ ما يُخجل، فلم ألتفتْ لهم أو أهتم بالردِّ عليهم، لكن في الوقت الذي كانت فيه كلمةُ (بحبك) تجلجلُ بداخلي، وكلُّ حركاتِي وسكناتِي تعبِّرُ عن هذا الحبِّ، كان لساني يقفُ عاجزًا عندما يصطدمُ بشفاهي الموصدة.

فكَّرتُ كثيرًا في الاحتفاظِ بها في أيةِ صورةٍ، حتى هداني تفكيري إلى أن أكتبَ قصةً عنها، أو عن حبِّي لها، أخبرتُها، ابتسمتْ بخجلٍ، ثمَّ قالتْ:
– عني أنا؟! لماذا؟!
– حتى تبقي معي دائمًا .
ضحكتْ، ثم قالتْ، بعد فترة صمت قصيرة، وهي تنظر في عيني:
– لا أدري بم أردُّ عليك.. لكن أنا معك الآن.
– الآن.. لكن فيما بعد؟!
– وماذا يمنع من البقاء معًا دائمًا؟
– الزمن البخيل.. أعرفه جيدًّا.. يحرمني دائمًا ممَّن أحبُّ.

انفجرتْ منها ضحكة عالية، حاولتْ قدر استطاعتها كبح جماحها، ثم قالتْ وهي لا تزال تغالب ضحكتها:
– أنتَ الذي اعترفتَ.. واعترفتَ اعترافين، لن أسألَك عن الأول، وإنما أنت الذي ستحدثني عن الثَّاني..
لم أفهمْ ما تقصده، ظهرتْ عليَّ علامات الحَيرة والقلقِ من الاعترافات التي تتحدثُ عنها والتي ربما ستوردني مواردَ الهلاك، وحتى تقطع عليَّ الحَيرةَ والتساؤلاتِ الكثيرةَ التي ظهرتْ علاماتُها على وجهي، قالتْ:
– يحرمُك ممَّن تحبُّ!!.. كم حبيبًا حرمك منه الزمن؟! اعترفْ.. لا تحاولْ..
توقف الكلام عندما دخل أحد الأصدقاء.

صمَّمتُ أكثر على الكتابة، بعد يومين أهديتُها قصتي القصيرة التي تحمل اسمها، فرحتْ بها فرحًا شديدًا، ثمَّ قالتْ:
– تخيلْ.. تمنيتُ كثيرًا أن أكون ملهمةً لأحدهم.
وعندما سألتُها بدهشة عن الذين تتحدث عنهم، قالتْ بأنها تقصد الشعراء، تتمنى أن تكون ملهمة لشاعر مثل نزار قباني ترى نفسها في إحدى قصائده، أو فاروق جويدة يعبِّر عن حبه المقدَّس لها.
– وقصتي المطوية بين يديكِ!!
ابتسمتْ، ثم بتردد فضَّتْها، وراحتْ تقرأ دون صوت حتى انتهتْ، ودون أن تعلق بكلمة أخفتْها مطويةً داخلَ حقيبة يدها متجنبةً النظر في عينيَّ.
توقف الكلام لحظات، نظرتْ بعينين حائرتين ممتنتين، تبحثُ عن كلمات الشكر ثم قالتْ:
– لا أعرفُ كيف أشكرُكَ.
قلتْ بأنَّها هي التي تستحقُّ الشكر؛ لأنها منحتْني قصة جميلة.
– (بابتسامةٍ ودلال) قصة فقط؟!
– (بِحَيرة) بل قصة جميلة.
ضحكتْ بصوتٍ عالٍ، ثم قالتْ بأنها لم تقصد هذا.. ثم نظرتْ لي بطرف عينها متسائلة:
– ثم ماذا؟
لم أجد كلامًا أمام نظرتها الساحرة، نظرتُ في عينيها، ودون أن أشعر تحركتْ شفتاي:
– بحبك.

لمعتْ عيناها غير مصدقة، التفتتْ الناحية الأخرى ثم انصرفتْ خجلى من المكان.
أيام قليلة مرَّتْ، صممتُ على أن أقدِّم لها هدية، تجوَّلتُ في شوارع القاهرة وقعتْ عيناي على (عِقد) رأيتُه جميلًا، جديدًا في تصميمه، حباته تجمع بين اللونين؛ الأزرق والرمادي، أعجبني العِقد، اشتريتُه على الفور، وفي اليوم التَّالي أهديتُه لها.
– (بفرح) لي أنا؟!
– لو بيدي لأهديتُك الشَّمسَ بين راحتيك.

ثم قلتُ بأن ألوانه مناسبة للكثير من ملابسها التي تجمع بين اللونين؛ الأزرق بدرجاته أو الرمادي بدرجاته.
تفتحتْ عيناها دهشة.. وعلى شفتيها ابتسامة وسؤال حائر، ثم بصوت منخفض:
– شكرا لك.

في انصرافنا ومغادرتنا العمل عرضتُ عليها فكرة السير معًا، قبلتْ، في الطريق بقصد منَّا أو بدون قصد تلاقتْ يدانا، تلاقتْ عينانا، تشابكتْ أصابعنا، استسلمنا، كان كلانا يبحث عن الأخر حتى في لمسة يد، صمتْنا، وتركنا لهما نقل كل ما بيننا.

في الليل حلمتُ بها ترقص رقص الباليه كاللاتي أراهن في التلفاز، إلا إنها كادتْ تسقط متعثرة أمام الجمهور الذي يتابعها بشغف، أسرعتُ وأسندتُها، فألقتْ بنفسها بين ذراعي متشبثة بي متفادية السقوط، وعندما همستْ لي بشفتيها:
– شكرا لك .
همستُ لها بشفتي:
– بحبك.
في اليوم التالي فاجأتني تتحلى بالعِقد قائلة:
– ما رأيك؟
– (وأنا أظهر إعجابي الشديد بها) رائع العِقد بكِ.
– استحسنه الجميع لكن كان المهم عندي أنتَ..
قاطعتُها قائلا:
– بالأمسِ حلمتُ بكِ.
ارتبكتْ..
– ماذا تقول؟!

وعندما كررتُ الجملةَ ثانيةً، سألتني عن حُلمي، وأخذتْ تُلح في السؤال الذي تهربتُ منه مرات موقنًا أنني أوقعت نفسي في ورطة، وأمام إصرارها حكيت. كانت قلقة في بداية الحكي، ثم تحوَّل القلقُ إلى فرحٍ وانتشاءٍ.
ليلة الخميس الفائت، جلسنا معًا أمامَ التلفاز، من حولنا الصغار يلعبون، طوقتُها بذراعي وذكرتُها بقصتي التي كتبتُها منذُ عَقدين، ففاجأتني بالعِقد الذي وضعته حول عنقها بحباته الزرقاء والرمادي.

الكاتب شحتة سليم

اقرأ ايضًا:

” أول حضن صادق” قصة قصيرة للكاتبة منى ياسين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى