الشاعر محمد الشربيني
وكنت في طفولتي السكندرية شديد الشغف بزيارة حديقة حيوانات النزهة؛حينما كانت الأُسَر تغزل خيوط المحبة بالزيارات المتبادلة..أقول كان من أبجديات زياراتهم لنا قضاء يومٍ رائعٍ في جنبات حديقة حيوانات النزهة وبراحها، وحديقة حيوانات النزهة كانت في ستينيات القرن الماضي شديدة الروعة… ككل شيء لحظتْه عيناي في ذلك الوقت؛كانت ملأى بصنوف الحيوانات البرية،وكان مما يستلفت عينَ الطفل حال اقترابي من بيت الفيلة وإطعامها- بموافقة حارسها بالطبع-أقول كان مما يستلفت عيني ضخامة بنيانها وسمك جلودها والذي يفوق جلود الجاموس-وإن كانت تتماثل في اللون الداكن…!!
وكما أورد القرآن الكريم الكثير من أوصاف النعيم الذي ينتظر الطائعين،أورد أيضا الكبير من أوصاف الجحيم الذي يتهدد العاصين،ورغم أن أوصاف الجحيم تقشعر منه القلوب(كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ)أي نار تحرق كل شيء فيه ، ويبقى فؤاده يصيح ( نزاعة للشوى ) أي : نزاعة لهامته ومكارم وجهه وخلقه وأطرافه فتبري اللحم والجلد عن العظم ، حتى لا تترك منه شيئا، ومنه( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) أي تأكل جميع ما في أجسادهم، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد، خلقوا خلقا جديدا،فرجعتْ تأكلهم،إلا أن قوله تعالى:(..كلمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ..الآية) تحمل من العذاب أشدَّه وأغلظَه..!! حيث تشير إلى أن مواقع الإحساس بالألم، وألم الحريق بالذَّات موجودةٌ في الجلد، فمن أجل أن يذوقوا العذاب،كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها..لأعاود السؤال الأكثر إلحاحاً على عقلي:هل صارت جلود الشعراء سميكة؟!!أو بصورة أشد إيضاحاً..هل فقد الشعراء إحساسهم بمآسي الأمة العربية؟!!
لقد استطاع الشعراء منذ مطلع القرن العشرين تجييش الأمة العربية خلف قضاياها،وتكوين رأي عامٍ مؤثر وضاغط… فهذا أمير الشعراء يقول:(كان شعري الغناء في فرح الشرقِ،/وكان العزاء في أحزانِه)(قد قضى الله أن يؤلّفنا الجُرْحُ/ وأن نلتقي على أشجانِهِ)(كلّما أنّ بالعراق جريحٌ/لمسَ الشرقُ جَنْبه في عُمانِه)(نحنُ في الفقْهِ بالديارِ سواءٌ/كلُّنا مُشْفقٌ على أوطانِه)..، ولن أكون مغالياً إذا قلت إن هذا الشعور الدافق في أبيات”أحمد شوقي”السابقة كان شعور كل مواطنٍ عربيٍّ مغترباً كان أو مقيماً،فهذا الشاعر السوري المهجري”نصر سمعان”يقول في قصيدته”فلسطين الشهيدة”:
(يا فلسـطين الحزينةْ/يا بلاد الشهداء)(إن أرضا منك تُسقى/بدمــاء الابرياء)(ليتها لم تك يوما/مهد رهط الانبياء) ويقول أيضاً وقد هاله ما يحدث في “فلسطين” من نكبة وضحايا:(يا فلسطين قدستْك الضحايا/ وكساك الخلود أسنى بروده/ يدَّعي الحقَّ في ترابك شعبٌ/ تأنف الأرض من تراب جدوده) …شاعر هاجر جسداً إلى”أمريكا الجنوبية”وما زالت براكين غضبه تثور شعراً لأجل “فلسطين”السليبة وهذا”إلياس فرحات”يهلل لثورة يوليو فيقول:(ألا حدثونا عن القاهرةْ/ وعن وثبة البطل الباهرةْ)، ويقول”الشاعر القروي”في قصيدته ضد الأتراك وتكريمًا للشهداء الذين علّقهم “جمال باشا” السفاح على المشانق:(خير المطالع تسليم على الشهدا/ أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا) فلتنحن الهام إجلالا وتكرمةً/لكل حر عن الأوطان مات فدى) وغيرهم كثيرون حملوا هموم أمتهم العربية وأوطانهم العربية في الحِلِّ والترحال،وأنظر حولي فيتردد في صدري مقولة الشاعر “دعبل الخزاعي”(إِنّي لَأَفتَحُ عَيني حينَ أَفتَحُها/عَلى كَثيرٍ وَلَكِن لا أَرى أَحَدا)
أعترف بقسوة المقال عنواناً ومطلعاً على الشعراء الحقيقيين، ولكن مَن الذي عبث بجينات أرتال الشعراء العرب الذين عجزت ألسنتهم،وجفّتْ ينابيعهم،وانكفأوا على ذواتهم؛ قواميسهم مفرداتٌ مهزومةٌ، وتراكيبهم أشبه بتراكيب المرضى النفسيين الذين يهرفون بما لا رابط فيه ولا معنى له.
وإذا كتبوا بإطار كلاسيكي يجترون معاني السابقين ومفرداتهم بل وأغراضهم؛لدرجة يستحيل أن تقول إن ما يقولونه ينتمي إلى زمننا ويهتم بقضايانا،ليستحقوا انصراف الجمهور عن الشعر وأهله سواء من ادَّعى ركوب سفينة التجديد أو اعتصم بجبل القديم…!! أين الشعراء المعبرون عما يحيق بالأمة من كوارث،وما يُدبَّر لها من مِحَن .
هل عجز الشاعر”البردوني”عن التعبير عن قضايانا رغم التزامه إطار الكلاسيكية حين قال:(ماذا جرى يا أبا تمام..تسألني/عفواً سأروي ولا تسألْ وما السببُ!!(يدمي السؤالُ حياءً حين نسألهكيف احتفت بالعِدا”حيفا”أو”النقبُ”).
وهل عجز”أمل دنقل”بإطاره التفعيلي عن موقفه في(لا تصالح على الدم.. حتى بدم!/لاتصالح..ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءْ أقلب الغريب كقلب أخيك!!/أعيناه عينا أخيك!!وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لكْ..بيدٍ سيفها أثْكَلكْ!!!) إن العيب لم يكن في الشعر،بل في الشعراء ذوي القاموس المخصيِّ .. هؤلاء هم المخاطَبون من”نزار قباني”: (أنعى لكم ياأصدقائي اللغة القديمةْ والكتب القديمةْ أنعى لكم كلامنا المثقوب كالأحذية القديمةْ ومفردات العهر والهجاء والشتيمةْ) ليأتي الختام من أحد أكابر الشعر العربي الحديث… العراقي الكبير”عبد الرزاق عبد الواحد”:
(أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل أطلق لها السيف وليشهد لها زحل)(أطلق لها السيف قد جاش العدو لها فليس يثنيه إلا العاقل البطل) (أسرج لها الخيل ولتطلق أعنتها كما تشاء ففي أعرافها الأمل)(دع الصواعق تدوي في الدجى حمما حتى يبان الهدى والظلم ينخذل)
الشاعر محمد الشربيني
اقرأ ايضا: