رشا لاشين تكتب: “بين الغياب والذكريات: الحزن الذي لا يفهمه الآخرون”

رشا لاشين
في هذه الصورة، تبدو ملامحي وكأنها تائهة في ضوء الشمس، لكن الحقيقة أني كنت أبحث عن ضوء آخر… ذاك الذي فقدته مع رحيل أبي. حينها، كان الوجه شاحبًا رغم ضوء النهار، وكانت العيون نصف مغمضة وكأنها ترفض أن ترى واقعًا مؤلمًا، يصرخ في صمت.
اليوم أعيش حالة مشابهة، بعد رحيل ماما نور زوجة أبي. حبي لها كان استثنائيًا، حقيقيًا وصادقًا، لكنه بالنسبة للآخرين يبدو غريبًا وغير مفهوم. يتعجبون كيف أحببتها وكأنهم لا يدركون أن الحب أحيانًا يتجاوز الألقاب والعلاقات التقليدية. كانت أمًا بديلة، رفيقة، ونسمة من الحنان الذي أغدقت به عليّ دون مقابل.
في لحظات كهذه، تتشابه كل الملامح. أبدو كما في الصورة: شخص يحاول أن يتماسك بينما تتلاشى روحه ببطء. الحزن هنا ليس مجرد دموع؛ بل ثقل يكتم أنفاسي كلما تذكرت صوتها، رائحتها، وحتى أبسط التفاصيل الصغيرة التي كانت تجمعنا.
ربما يعتبرونني غريبة لأني أحببتها بهذا القدر، لكنني أقول: “الغريب هو أن يُحرم الإنسان من قلبٍ أحبّه دون شروط.” أعيش الآن تلك الغرابة وحدي، محاطة بالذكريات، مستندة على أمل هش أن حضورها ما زال هنا، يطمئنني في لحظات الانكسار.
الحزن واحد، يتكرر في كل فقد، لكنه يترك في كل مرة ندبة جديدة لا تندمل.
في هذه الحالة، يبدو كل شيء حولي كأنه فقد ألوانه، حتى الشمس التي كانت تضيء عالمي أصبحت مجرد ضوء بلا دفء. مشهد غياب ماما نور يعيدني إلى تلك اللحظة القديمة، إلى صورة تشبهني حين فقدت أبي. لا أعرف كيف أُوصِفُ هذا الشعور؛ هل هو فقدان مضاعف أم أن الحزن القديم كان مختبئًا في قلبي، وها هو الآن ينفجر مع الفقد الجديد؟
الحالة نفسها تتكرر: تجمُّد الزمن. كل التفاصيل الصغيرة تتحول إلى ثقوب واسعة يطل منها الغياب. صوتها الذي كان يملأ البيت أصبح الآن صمتًا مطبقًا، خطواتها التي اعتدت عليها في كل زاوية باتت غائبة. حتى نظرتها التي كانت تحتوي حزني عندما سقطت حياتي تحت عبء الظروف، أصبحت مجرد ذكرى بعيدة أحتضنها في مخيلتي وأبكي.
ما يزيد ألمي، هو ذلك التساؤل الذي يطاردني من الآخرين: “كيف أحببتِها بهذا الشكل؟” وكأن الحب يحتاج إلى تفسير، وكأن القلوب تُبرمج لتُحِب من نعتقد فقط أنهم الأقرباء بالدم. لا يعلمون أن ماما نور كانت إنسانة لا تحتاج إلى لقب الأم لكي تكون أمًّا. كانت تحتويني مثلما يحتضن البحر أمواجه، تمدني بالحب في صمت دون سؤال، كانت تعطيني دون أن تنتظر مقابلًا.
الآن أعيش حالة من التوهان بين الماضي والحاضر؛ بين ذكرياتهم جميعًا، وواقع خالٍ منهم. تلك اللحظات التي أستعيد فيها صورتها أو أتذكر كلمتها الأخيرة، أشعر أنني مشيت خطوات إضافية نحو الوحدة. ليس لأنني وحدي، بل لأن وجودهم كان يعادل عالَمًا كاملًا.
صوتي الداخلي يصرخ:
“لا تسألوني كيف أحببتها بهذا العمق… اسألوني كيف أستطيع أن أعيش بدونها الآن؟”
هذا السؤال الذي لا أجد له إجابة، سوى تلك الوجوه الشاحبة في الصور القديمة، وتلك الغصة العالقة في قلبي التي لا تهدأ.
الحزن بعد الفقد يشبه الثوب الذي يرفض أن ينخلع عن الروح، ثقيل، قاسٍ، لكنه غير مرئي. الكل ينظر إليك كأنك بخير، بينما داخلك عالم ينهار بصمت… هذا هو حالي الآن، صورة تكرر نفسها، لكن الجرح أعمق، والوجع أشد.
رشا لاشين