تبارك الياسين تكتب قصة قصيرة بعنوان ” المعطف”

تبارك الياسين

أزالت الصورة ذات الإطار البلاستيكي عن الحائط الذي بجانب النافذة، وعلقت على
المسمار الصدئ علاقة خشبية تحمل معطفا رمادياً فاخرًا، مسدته بيديها، عبثتْ قليلًا بأزراره العاجية، ووقفت تتأمله من بعيد، حملته منذ الصباح الباكر بين يديها في كيسٍ كبيرٍ من بيت مخدومتها. تسير في الشوارع وكأنها تحمل كنزًا، تشده إليها بقوة خوفًا من أن يجذبه أحد اللصوص وينتشله من بين يديها.

لا مناسبة اليوم لتهديه إليه، ولن تنتظر عيد ميلاده في شهر شباط، فالشتاء قارس في كانون، ولا بد من معطفٍ يقيه برد هذا الشتاء.

سيحبه بكل تأكيد مثلما أحبته، ما زالت رائحة عطر زوج سيدتها عليه، عطر نفاذ تسلل إلى يديها.
مضى معظم اليوم بين ترتيب بيتها الصغير ذي الغرفتين الضيقتين، ومطبخ بحجم قبضة الكف، والوقوف أمام النافذة، نافذتها الصغيرة ذات الستارة القرمزية، تنتظر عودة زوجها الذي لم يرغب بعملها كخادمة، لذلك تركت العمل بعد زواجها منه بأشهر.

ولكنها كانت تحب عملها، ليس لأنها تحب هذا العمل الشاق، بل رغبة منها في أن تمضي أكبر وقت في ذلك المنزل الكبير، تنتقل بحرية بين غرفه الواسعة، تتأمل اللوحات الكبيرة، والتحف الجميلة، تمارس دور السيدة لساعات في خيالها .. كان اتصال السيدة بالأمس بمثابة طوق نجاة لها.
لم تصدق أذناها ما قالته له:
(أريد أن أشرب معك فنجان قهوة)
خرجتْ صباحًا بكامل أناقتها، فستان صوفي بني اللون، وحزام عريض يتوسط خصرها، ربطت شعرها بمنديل ملون، وقرطين نحاسيين يتأرجحان حول عنقها العاري …

تناولت فنجان القهوة بكوب فخاري كبير بينما الحزن يغطي وجه سيدتها. لم تفهم ما الذي تريده منها، لم تنطق بكلمة واحدة، فقط ظلت تنتظر ما تريده، وهي تنظر إلى فنجان قهوتها، تغض النظر عن وجه سيدتها التي بدت هرمة جدًا ، وظهرت خطوط رفيعة حول فمها، حتى نطقتْ:
-أريدك أن تنظفي غرفة النوم جيداً.

بدت الغرفة وكأن قطّاً بريّاً قد استولى عليها، زجاج مكسور، والسرير قد تم نهشه،
ومعطف ملقى على الأرض مثل جثة هامدة…
أنهتْ ترتيب الغرفة، وحملت بين يديها المعطف، وما إن رأته سيدتها حتى صرختْ: ارميه في القمامة، تخلصي منه..

أومأت بسعادة، وضعته بكيس أنيق وحملته معها.
دخلَ زوجها البيت، قفزتْ فرحة، تشده من يده ليرى ما جلبته له …مدَّ يده إلى المعطف لتبعدها بحزم:
-يدك متسخة بالشحم
نظرته الباردة أثلجت ابتسامتها:
– هدية مني لك .أليس جميلًا؟
لم يجب، أومأ برأسه وحسب، وانسحب إلى الحمّام ليغتسل ..
بعد تناول الطعام تمدد بالقرب من المدفأة:
– كيف كان يومكِ؟

– مثل أي يوم، لن أعمل لديها، كانت تريد إعطائي هذا المعطف لا أكثر .قالتها ليطمئن قلبه.
نامت زوجته بينما بقي هو مستيقظًا، تأمل زوجته وهي نائمة وعلى وجهه ابتسامة ساخرة. يعلم في قرارة نفسه أن زوجته مازالت لديها تلك الرغبة بالعمل لدى السيدة، ويعلم أنها تظن نفسها وليدة تلك الطبقة المخملية. لم تقتنع يومًا بأنها ابنة هذا الحي الفقير.

حدّق في الجدار ليبادله المعطف نظراته بشراسة ويقول له:
– انظر أين أنا الآن؟ في مكان مقرف، بيت يختنق برائحة الرطوبة، وعفونة على الحائط قد تشقق هذا القماش، لا أدري لمَ وصلتُ إلى هنا، أي جريمة ارتكبتْ لأُرمى مثل قطعة بالية. كنت مزهوًا في يد من صنعني، ومن ثم وجدت نفسي متأنقًا خلف زجاج المحل، أنظر بعين الشفقة على هؤلاء الذين يشهقون خلف الزجاج عندما يلوح لهم السعر.

” آه ياذكرى” قصيدة لـ حسن أبو عرب محمد

أنا أنتمي إلى هؤلاء الذين يقدِّرون نعمة الحياة بكل ترفها …
– يبدو أن السيد وجد ما هو أفضل منك لذلك رماك بكل بساطة، قال وهو يضحك لينتفض المعطف وتهتز أزراره العاجية:
– ليس هو، بل زوجته من ألقت بي.. أشفق على نفسي، أريد أن ينتهي هذا الكابوس… هل تدرك معنى أن تلمسك يدان خشنتان متسختان بالشحم؟ أو أن تفوح من جسد الذي سيرتديني رائحة المحروقات؟ أي بطانة ستحتمل كل هذا القرف، أي نهاية تلك؟

-هل تظن أني سعيد باقتنائك؟ حتى إنني لا أعرف كيف سأرتديك وأين؟ منذ أن رأيتك وأنا أود لو ألقيك من النافذة، وجودك هنا معلقٌ أمامي يشعرني بعجزي؛ فأنا أعلم كم عانت زوجتي في بيت مخدومتها…كم ساعة من العمل الشاق كلفها هذا المعطف!

المعطف بابتسامة خبيثة: ربما لم تكن ساعات عمل شاقة، وإنما ساعات حميمة، هاهاها؟
انقض الرجل على المعطف، وبغضب فتح النافذة، وألقاه منها والمعطف يصرخ ويصيح بقوة …
استيقظت زوجته على صراخه.
– كابوس؟
– عودي للنوم!
قام من فراشه واتجه حيث المعطف معلق في مكانه، اقترب من المعطف لمسه كان هناك بقعة من أحمر شفاه التصقت به كأنها شامة، دس أنفه في الياقة… رائحة امرأة امتزجت برائحة عطر رجالي …
ابتسم وقال يا لك من معطف محتال! يرتمي المعطف عليه محتضنا جسده وهو يبكي …

تبارك الياسين

اقرأ ايضًا:

ظاهرة القرين أو الـ Doppelgänger: لغز الأبعاد المزدوجة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى