الشاعر محمد الشربيني يكتب: على أرْصفةِ الدهشة
الشاعر محمد الشربيني
لم يعد للدهشةِ موضعٌ حينما نرى شوارعنا موطناً متجدِّداً لاستزراع البذاءة التي تصدم أسماعنا دون اعتبارٍ أن هذه المفردات ستطرق مسامع المارين من الرجالٍ أو النساء؛فما من أمة إلا وتمرُّ بفتراتٍ تاريخيةٍ من عدم الاتزان وفقدان البوصلة والالتفاف المتعمَّد على منظومة القيم والأخلاق التي ترسَّختْ بين كل فئات المجتمع وأفراده.. أقول إن الانتشار المقيت لألفاظ البذاءة لم يعد يلقى نظرات الاستهجان أو حتى تثير الاستغراب وكأنها صارت لغةً يومية لا يحترز منها..!!
والتعريف المبسَّطُ للبذاءة: هى التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة،أو كما عرَّفها البعض الفحش والقبح في المنطق،وإن كان الكلام صدقا، والمتأمل في شيوع البذاءة يجد خطراً داهماً يتمثَّل في الإصرار على تسويغ استعمال مفرداتها،بل والتطبيع معها على صفحات التواصل الاجتماعي،بل يصل الإسفاف مداه في الضغط لاعتماد قاموسها ضمن قاموس التخاطب الإعلامي والحوار الفني في الكثير من الأعمال الفنية؛مسرحيةً كانت أم سينمائيةً؛لتصير معولاً من معاول تحطيم الأخلاق الحاكمة الفردَ والمجتمع.
ورغم مايحاوله الكثيرون من دارسي الشعر العربي قديمًا وحديثاً إيجاد المبررات لاستخدام قاموس البذاءة وتسويغ ذلك باعتباره أمراً ليس جديداً على الأذن العربية لا يستدعي أن تمتعض أو تدهش..!! إلا أن ذلك لم يكن بهذا الشيوع بين كل طبقات المجتمع فللأمر جذوره في شعرنا العربي ونحن ندري؛لكنه يظل محصورا في جلسات خاصة قد يعتري جلساءها التبذُّلُ لا بهذا الشيوع السافر..!نعم..إن كتاب “الأغاني لـ”الأصفهاني” وكذلك معظم حكايات “ألف ليلة وليلة”،بل وأشعار شعراء المجون حوت الكثير من ذلك.
لكن كما قلنا يظل ذا أثرٍ محدودٍ،نعم..إن غرض الهجاء في الشعر العربي أكثر الشعراء فيه استخدام الكثير من الألفاظ الخادشة؛بل إن “حسان بن ثابت” في هجائه قريشا لم تسلم من لسانه “هند بنت عتبة وزوجها أبو سفيان”قبل دخولهما الإسلام في فتح مكة:(أَشِرَتْ لَكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا/لُؤْمًا إذَا أَشَرَتْ مَعَ الْكُفْرِ)- كما وَرَدَ في سيرة “ابن هشام”- كان ردُّ “حسان بن ثابت”على”هند” من قبيل رد الاعتداء لكنه، أخطأ وتجاوز حقه في رد الاعتداء بالطعْن في الشرف بغير دليل كقوله: (ونسيتِ فاحشةً أتيتِ بها) ؛ إذ يكفي قول”هند بن عتبة”رضي الله عنها بعد إسلامها عند مبايعتها للنبي صلى الله عليه وسلم للرد على هذه التهمة الشنيعة: “وهل تزني الحرة؟!”،كما أنه ذكر ما لا يمكن العلم به من عيوب الجسم وفيه بذاءةٌ..!! والكثيرون ممن تحَّدثوا عن البيت الذي قتل صاحبه ( الخيل والليل والبيداء تعرفني..)يقصدون “المتنبي”غافلين عن سبب الاقتتال ؛إذ هجا المتنبي”ضبَّةَ بن يزيد”وأمه بأقذع الشتائم والألفاظ الموجِبةِ حدَّ القذف في قصيدة مطلعها:(ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّة) أغضبت”فاتك بن أبي الجهل(خال ضبَّة)وانتقم لأخته وابنها.
وهل يمكننا المغادرة دون أن تميل رواحلنا بخيام شعراء العصر الحديث الذين اشتهروا بذلك؛إذْ يأبى”نجيب سرور”إلا أن يحتل الواجهة رغم محاولات طمسه وإقصائه؛فلقد ذاق مرارة الاعتقال في ستينيات القرن الماضي،وخرج منه بثلاثيته”يس وبهية”و”قولوا لعين الشمس” و”آه يا ليل يا قمر”، ثم وقعت نكسة “يونيو”ومذبحة “أيلول الأسود”بحق الفلسطينيين بالأردن،لم يستطع أن يتحمَّل هذه النكبات فتم إيداعه مستشفى الأمراض العقلية،على فترات حتى لقيَ ربَّه..لقد كان”نجيب سرور”مؤمناً بالقومية العربية ووجوب وحدة العرب، وقد استغرق هذا الحلم إبداعه الشعري-فصيحاً وعاميا-يقول:(قدّامنا سكِّة سفرْ رايحة لتل أبيب/ شايفها خطوةْ بخطوةْ والسفرْ ده قريبْ/ ياسلامْ على الرايةْ يوم النصر بترفرفْ/ وتقولْ يا أرض العرب ماعادش فيكِ غريب) لتأتي النكسةُ تُجهض أحلامه بصبِّ مزيدٍ من الملح على الجراح النازفة،ومِثْل”نزار قباني” في”هوامش على دفتر النكسة” و”ومظفَّر نواب”الذي جاءت قصيدته”القدس عروس عروبتكم” بياناً شعبياً وصوتاً جماهيرياً ضارياً يهاجم الجميع ( أصرخ أين شهامتُكم..!!/إنْ كنتم عرباً.. بشراً.. حيواناتٍ/فالذئبةُ تحرس نطفتها/والكلبةْ تحرس نطفتها/والنملةُ تعتز بثقب الأرض)
ولم أكن يوماً مستسيغاً وجودَ ألفاظٍ نابيةٍ في عملٍ إبداعيٍّ لي أو لغيري…رغم مبررات استخدامه من قِبَل مسوِّغيه بدعوى إغلاق الغضب مسالكَ القوْل،أو سدَّ أمام التعقُّل الأبواب،واستشعر المرء -مبدعاً كان أم غير مبدعٍ-فداحةَ الخسارة… عندها كما يبررون يُطلق الخاسر لسانه من قيود التروِّي؛حيث يرون الغاضب من أجل الوطن والعرض،والمقاتل في سبيله… أقول يرونه شخصاً حقيقيّاً لا يستطيع التقنُّعَ بقناع الأدب حال انتهاك حرماته… ليأتي الختام درويشيا رائعاً وقصيدته.. “عن إنسان”..
(وضعوا على فمه السلاسلْ/
ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا : أنت قاتلْ !/أخذوا طعامَهْ ..والملابسَ..والبيارقْ
ورموه في زنزانة الموتى
وقالوا : أنت سارقْ !/طردوه من كل المرافئْ/أخذوا حبيبته الصغيرة..ثم قالوا : أنت لاجئْ!/
يا داميَ العينين..والكفين إن الليل زائلْ/لا غرفةُ التوقيف باقيةٌ..ولا زَرَدُ السلاسلْ!!/”نيرون” مات ولم تمت روما…بعينيها تقاتلْ/وحبوبُ سنبلةٍ تموت … ستملأُ الوادي سنابلْ!!).
الشاعر محمد الشربيني
اقرأ ايضا:
الشاعر محمد الشربيني يكتب: الصراخُ في أوديةِ الفراغ