الشاعر محمد الشربيني يكتب: أَوَّلُ القصيدةِ..كُفْرٌ!!

الشاعر محمد الشربيني

ولنستحضر الآن المشهد سفراً عبر الزمن؛نحن الآن في قصر الخليفة الخليفةُ الفاطميُّ”المعزُّ لدين الله”الفاطميُّ وقد علتْه أمارات العظمة،وسرت في عروقه الدماء الممزوجة بالتعاظم والكِبْر..وكيف لا؟!! وقد دانت له البلاد ورقاب العباد، وهذي درة العواصم “القاهرة” التي بناها وزيّنها قبيل مجيئه قائده”جوهر الصقلي”لتكون تحفة الناظرين.

يجلس”المعز لدين الله”الفاطمي يحفه المادحون،وإذْ بـ”ابن هانئ” الأندلسي المُلقَّبِ بـ”المتنبي المغرب”يمتطي حصان التزلُّف وتمجيد الخليفة الفاطمي وقد أسْرجه له”إبليس”، وأفسح له مضمار العدْوِ كي لا يزاحمه سابقٌ ولا لاحقٌ،وينشد صاحبنا قصيدته الشؤم إذ ابتدأها بهذا الكفر الصريح:(ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ/ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ).

ليتمايل الخليفة الفاطمي تيهاً فـ”ابن هانئ”أنزله منزلةً طالما ارتبطت بعقول الكثيرين ممن جلسوا على أريكة الحكم مفادها أن الحاكمَ ظلُّ الله في الأرض،ولم يفكر ساعتها في البيت الذي يليه إذْ ألبسه “ابن هانئ”عباءة النبوة.

وفي ذلك إخراجٌ له من دائرة الألوهية إلى درجة البشرية!! لكن أي عقلٍ في مجلسٍ تُتبادل فيه كؤوس البهتان يصبها”إبليس” وصبيانه وتتوالى أبيات القصيدة (وكأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ/وكأنّما أنصاركَ الأنصارُ)فلقد أوغل “ابن هانئ” في البهتان إذ جعل”المعز لدين الله” بشارة السابقين (أنتَ الذي كانتْ تُبشِّرنَا بهِ/ في كُتْبِها الأحبارُ والأخبارُ)و”ابن هانئ” معذورٌ في افتتانه بـ”المعز لدين الله”فهو يرى فيه(هذا الذي ترجى النجاةُ بحبِّهِ/وبه يُحطُّ الإصرُ والأوزار).

ويرى في شفاعته طوق النجاة يوم الحشر (هذا الذي تُجدي شفاعتُه غداً/وتفجَّرَتْ وتدفّقَتْ أنهار)ورغم ما في القصيدة من تجاوزات دينية تصل بصاحبها إلى مرتبة الكفر الصريح إلا أن المتأمل فيها بعين الناقد يلحظ تضاربا لا يخفى على كل واعٍ بصناعة الشعر؛فإذا كان الممدوح في البيت الأول هو “الواحد القهار”حاشا لله أن يوصف بذلك غيرُه..فلِمَ يرى”ابن هانئ”في شفاعته جدوى..؟!!وما علاقة الشطر الثاني(وتفجَّرَتْ وتدفّقَتْ أنهار) بالشطر الأول (هذا الذي تجدي شفاعته غداً)..؟!! لكن”ابن هانئ”لا يفكر؛فقد التقت حاجته إلى الكسب الوفير والقرب من مجلس الخليفة الفاطمي بحاجة الخليفة الفاطمي إلى من يُعليِ ذكره، وليس أدل على ذلك من موقفه حينما علم بمقتل شاعره-إذ قُتل في ريعان شبابه- فأسف على موته وقال عنه: «كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق، فلم يُقدَّرْ لنا ذلك».

قطاع وحيد واعٍ-وإن رآه الجهلاء طيِّباً-ما إن سمع بقصيدة”ابن هانئ”حتى أطلق قولته الشهيرة التي صارت مثلاً (أول القصيدة..كفر!!)،صارت سخريةً تستحضرها الأفواه إذا كان الكلام أو الأفعال مبدوءةً بما يناقض العقل والمنطق،إنه ذلك الإنسان المصري البسيط الذي-وإن بدا غير آبه بما حوله- إلا أن خبرة آلاف السنين عركته ومدَّتْ جذوره في الأرض إلى ما قبل التاريخ…

 

هذا المصري البسيط الذي تراه ينتشر فيما أمامك في الحقول والمصانع في الأحياء الشعبية والأسواق في المواصلات العامة بعيداً عن النخبة المتكلسة مرتدي الثياب الفخمة وراكبي السيارات الفارهة والمبتدئين أحاديثهم بهذي اللازمة المتقعرة (في الواقع/أنا أعتقد)،أقول هذا المصري البسيط تراه بسيط المظهر قد تغضَّن وجهُه، وتجعَّدت بشْرته،وبدت عروق يديه نافرة… لكن عينيه تحملان بريقاً حاداً يستمده من جذوره الضاربة في طمْي هذا الوادي، وكلما ترامى إلى سمعه تدمير العدو الصهيوني لكل البِنَى التحتية للجيش العربي السوري، وكل أسلحته وطائراته وأسطوله البحري ومدرعاته..منذ الليلة الأولى لدخول الثوار”دمشق” يضرب كفّاً بكفٍّ مغمغماً.. أوَّلُ القصيدةِ..كُفْر!! ويتجاوب في الأرجاء مطلع قصيدة”جريمة شرف”للشاعر العربي السوري” نزار قباني”:
( وفقدتَ يا وطني البكارةْ/ لم يكترثْ أحدٌ..وسُجّلتِ الجريمةُ ضدَّ مجهولٍ،وأُرخيتِ الستارةْ/نسيتْ قبائلُنا أظافرَها،تشابهتِ الأنوثةُ والذكورةُ في وظائفِها، تحوّلتِ الخيولُ إلى حجارةْ/لم تبقَ للأمواسِ فائدةٌ..ولا للقتلِ فائدةٌ..فإنَّ اللحمَ قد فقدَ الإثارةْ/دخلوا علينا..كانَ عنترةُ يبيعُ حصانهُ بلفافتَيْ تبغٍ، وقمصانٍ مشجَّرةٍ،ومعجونٍ جديدٍ للحلاقةِ..كانَ عنترةُ يبيعُ الجاهليّةْ/ ما زالَ يكتبُ شعرهُ العُذريَّ قَيسٌ واليهودُ تسرّبوا لفراشِ ليلى العامريّةْ/حتى كلابُ الحيِّ لم تنبحْ..ولم تُطلَقْ على الزاني رصاصةُ بندقيّةْ).

يضرب كفّاً بكفٍّ.. مغمغماً أليس هذا الجيش الذي شاركنا ملحمة “أكتوبر”قبل واحدٍ وخمسين عاماً ؟!! هل ببساطة يصدر مرسومٌ بسقوط الجيش فيسقطون!! وهؤلاء الثوار أعجزوا عن إظهار اعتراضهم أو امتعاضهم مما ارتكبه العدو،فلا يلبث أن يعاوده حنينه الجارف إلى قصيدة”العبور” لشاعر اليمن الكبير “د.عبد العزيز المقالح”
: (لا اللَّيلُ في الضِفَّةِ الأخرى ولا النُّذُرُ/ولا الدِّماءُ، كما الأنهارِ، تنهمرُ)(ولا الذئابُ، وقد أقْعَتْ على حذرٍ/وحولَها تزأرُ النِّيرانُ، والحفرُ)(لا هذه سوفَ تثنينا،ولا خطرٌ/يصدُّ جيشاً دعاهُ الثَّأرُ والظَّفَرُ)(جيشاً تمرَّدَ صبراً في مواقعِهِ/وكادَ في الانتظارِ المرِّ،ينفجرُ)(مشى ليثأرَ منْ أعدائِهِ،ومشتْ/في رَكْبِهِ الشمسُ والتاريخُ والقدرُ).

يضرب كفّاً بكفٍّ مغمغماً..أوَّلُ القصيدة..كُفْر!! حينما يصدر قائد الثوار مرسوماً بإلغاء خدمة العَلم وسيكون التطوُّع اختيارياً-ولمن لا يعرف خدمة العَلم هي التجنيد الإلزامي،وحينما تصطدم عينَه صورُ بعض المستوطنين يقيمون صلواتهم التلمودية على ما احتلته إسرائيل من بقية مرتفعات الجولان المحتل.. ووسط غمغمة ذلك المصري البسيط تحين منه نظرة امتنان إلى السماء على وطنٍ بلا أقليات وجيشٍ بلا طائفية …لتظل تتردد مِلْءَ أسماع الدنيا قصيدة”العبور” تشحذ الهمم وتوقد شعلة العزة لعل النيام يستفيقون:

(يا عابرَ البحرَ ما أبقى العبورُ لنا!!/وما عسى تصنعُ الأشعارُ والصورُ!!)(أبطالُنا عبرُوا مأساةَ أمَّتِهم/ونحنُ في كفنِ الألفاظِ نُحْتَضَرُ)(تقدَّموا عبرَ ليلِ الموتِ ضاحكةً/وجوهُهم، وخطوطُ النارِ تستعرُ)(وأشعلوا في الدُّجَى أعمارَهم لهباً/للنصرِ، واحترقوا فيهِ لينتصروا)(عبورُهم أذهلَ الدُّنيا، وموقفُهم/تسمَّرَتْ عندَهُ الأقلامُ والسِّيَرُ)(وددْتُ لو كنتُ يوماً في مواكبِهم/أو ليتني كنتُ جِسْراً حينَما عبرُوا).

الشاعر محمد الشربيني

اقرأ ايضا :

الشاعر محمد الشربيني يكتب قصيدة ” هُنَا “

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى