الشاعر محمد الشربيني يكتب: أَلْفُ أَلْفُ..تُشْكَرونْ
حين قيل لـ”عنترة بن شداد”: أنت أشجع الناس وأشدها قال:لا،قيل:فبِمَ إذن شاع لك هذا في الناس..؟!!قال:”كنت أُقدِم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأُحجِم إذا رأيت الإحجام حزمًا،ولا أدخل موضعًا لا أرى لي منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضّعيف الجبان فأضربه الضّربة الهائلة يطير لها قلب الشّجاع فأثنِّي عليه فأقتله”.
وبشيءٍ من التحليل النفسي لهذا الحوار نجد أن محاوري”عنترة العبسي” انطلقوا من حقيقة يعتبرونها مسلَّمة لا تقبل الإنكار،ورفض “عنترة”تلك المقولة رفضاً قاطعا فلم يلعب برأسه المديح له بالتفوق الجسدي والمعنوي(أشجع الناس وأشدها)؛بل أوضح سر شجاعته في”إقدام بلا تهوُّر،وإحجام تقوده الحنكة، ومابينهما تشتعل مشاعر الخوف باستعراض بطشه بضعاف القلوب مما يجعل الخوف يتملك من قلوب فوارس أعدائه..إذن هذه الخلْطة المُحكمة التي استخلصها”عنترة” بخبرته القتالية،وصار بها من فرسان العرب المعدودين،فليس كل إقدام محموداً،وكذلك ليس كلُّ إحجامٍ مذموماً
وحين أرسل رسول الله صلى عليه وسلّم إلى “شرحبيل بن عمرو الغساني” ملك”بصرى”من بلاد الشام يدعوه إلى الإسلام ، فما كان منه إلا أن قتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على خلاف ما جرت العادة من إكرام الرسل وعدم التعرّض لهم،فكانت غزوة مؤتة حيث خرج ثلاثة آلاف مقاتل عُقِدت الراية لثلاثة من أجلّاء الصحابة بالتناوب، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن أصيب زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة ).
وخرجوا إلى الشام، فلما بلغهم أن”هرقل”قد نزل بالبلقاء في مائة ألف من الروم، ومائة ألف أخرى من القبائل العربية الموالية له عقد المسلمون مجلسا للتشاور ، فقال بعضهم:نكتب للنبي-صلى الله عليه وسلم-نخبره بعدد عدونا،فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له،وقال آخرون:قد وطئتَ البلاد وأخفتَ أهلها فانصرفْ؛ فإنه لا يعدلُ العافيةَ شيءٌ؛ لكن”زيد بن حارثة”نفذ ما رآه’ابن رواحة”من الرغبة في القتال،وفي”مؤتة”التحم الجيشان.
وقُتل قادة المسلمين الثلاثة، فاصطلح الناس على”خالد بن الوليد”الذي رأى إنقاذ الجيش مع حِفْظ كيانه وهيبته في الانسحاب بعد إرهاب العدوّ وإيهامه بوصول مددٍ جديدٍ ،فصمد حتى الليل واستغلّ الظلام ليغيّر مراكز الجند، طالباً من خيّالة المسلمين اصطناع غبارٍ وجلبة قويّة،فظن الروم أن المسلمين قد دعمهم المدد،فخارت عزائمهم، واشتدّ المسلمون حتى يقول”خالد بن الوليد”:لقد انقطعت في يدي يوم”مؤتة” تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية،نعم نجح خالدٌ في العودة بجيشه إلى المدينة دون خسائر تُذكر ، وقُتل من الروم خلقٌ كثير، لكن لما وصلوا عاتبهم بغلظةٍ بعضُ المسلمين حتى خشي أولئك من غضب الله ورسوله،فأتوه قبل صلاة الغداة فخرج فقال:مَن القوم
؟فقالوا:نحن الفرارون فقال: لا بل أنتم الكرَّارون.. إذن الإحجام الذي تقوده حكمةٌ وحنكةٌ ليس مذموماً!!
وقبيل معركة”القادسية” كانت هناك معركة”الجسر”إذ أرسل قائد الفرس رسالة إلى قائد المسلمين “أبي عبيد الثقفي”فحواها(إما أن تعبروا إلينا وندعكم تعبرون وإما أن تدعونا ونعبر إليكم)، فتشاور “أبو عبيد”مع قادة جيشه، فأجمع قادة الجيش على ترك الفرس يعبرون لهم؛ لتكون أرض المعركة أوسع،ويسهل قدوم الإمدادات للمسلمين.
وكان الاتفاق تاماً على أنهم لو عبروا للفرس فسيحشرونهم في مكان ضيق وخلفهم الحاجز المائي نهر الفرات؛ولكن”أبا عبيد”فاجأ الجميع بالرفض والإصرار على العبور إلى الفرس بحجة واهية إذ قال:”لا يكونون أجرأ منا على الموت بل نسير إليهم”!!قرارٌ صدمةٌ مبنيٌّ على الشجاعة فقط دون النظر لباقي المعطيات.
فناشده القادة ومنهم الصحابي الجليل “سُليْط بن قيسٍ” البدري، ألا يعبر لخطورة ذلك لكن “أبا عبيد”أصرّ على رأيه وقال:(لا أفعل..قد جبنتَ يا سُليْط) فقال “سُليْط”:(والله أجرأ منك نفساً وقد أشرنا عليك بالرأي فستعلم) لينهزم المسلمون ويُستشهد”أبو عبيد الثقفي” والقادة الذين كانوا من بعده، وعددٌ كبير من المسلمين، ثم تولّى زمام القيادة “المثنى بن حارثة” الذي أمَّن انسحاب الناجين ..إذن الإقدام المتهور ليس محموداً!!
لقد كان العقل العربي على مرِّ العصور شديد الوعي والإدراك لما يجب أن يكون عليه المقاتل من حنكةٍ في التعامل وما يحيط به من معطيات حتى وإن اصطدمت موضوعية هذا العقل وما يشيع من مفاهيم مغلوطة فما استمالته تيارات الأغلبية لأنه أدرك مرامي الآيات القرآنية (…ولكن أكثر الناس لا يعلمون/…ولكن أكثر الناس لا يعقلون/…ولكن أكثر الناس لا يفقهون).
لكن العقل العربي الممثل في نخبته وكتابه ومفكريه معظمهم الآن كما قال “نزار قباني”:(كتَّابنا ما مارسوا التفكير من قرونْ/لم يُقتلوا..لم يُصلبوا..لم يقفوا على حدود الموت والجنونْ/كتابُنا يحيون في إجازةٍ ..
وخارج التاريخ يسكنون!!) لقد فقدوا دورهم وتركوا الجماهير نهبا للافتات كلِّ زاعق وناعق.. لتضيع”فلسطين”حيث جنى عليها الكثير من الأنظمة العربية التي جعلتها”قميص عثمان”تتاجر به، وجنى عليها الكثير من المنظمات الفلسطينية التي ارتدت أزياء تلك الأنظمة..أجل مُحيتْ”غزة”والضفة بين عشية وضحاها وجنوب لبنان صار ممشى للعدو ودمشق جيشٌ أُبيد دونما حربٍ وأرضٌ صودرت إنها النكسة وليس لها مسمى آخر
ليَصْدُقُ في الجميع ما قال”نزار قباني”قبل سبع وخمسين سنة:
(متي سترحلونْ/المسرح انهار على رؤوسكم ..متى سترحلون !!/
والناس في القاعة يشتمون .. يبصقونْ/كانت فلسطين لكم ..
دجاجةً من بيضها الثمين تأكلونْ/
كانت فلسطين لكم ..قميص عثمان الذي به تتاجرونْ/
طوبى لكم ..على يديكم أصبحت حدودنا من ورقٍ فألف تُشكرون ..
على يديكم أصبحت بلادنا
امرأة مباحةً .. فألف تشكرونْ/
حرب حزيران انتهت ..
وضاع كل شيءٍ ..الشرف الرفيع، والقلاع،والحصون والمال والبنونْ/
لكننا .. باقون في محطة الإذاعة ..
“فاطمة تُهدي إلى والدها سلامها”
“وخالد يسأل عن أعمامه في غزةٍ .. وأين يقطنون؟”
” نفيسة قد وضعت مولودها”
” وسامر حاز على شهادة الكفاءة”
” فطمئنونا عنكم ..
” عنواننا المخيم التسعون !!)
اقرأ ايضًا:
الشاعر محمد الشربيني يكتب: أَوَّلُ القصيدةِ..كُفْرٌ!!