السيد عبدالصمد يجرى قراءة في مربعات “عند السواقى للفلاح الفصيح معوض حلمى”
السيد عبدالصمد
هناك من شعراء العامية من أراد أن يجعل فن الواو الشعرى فى قالب بحرمعين أو إيقاع ملزم يلتزم به شاعر الواو وكان خاطئا في ذلك النهج لأن هذا من المعايير الخاصة بالشعر العمودى وبشعر التفعيلة ولا يجوز أن يحكم به على الواووقد كان للمكان ضروريته القصوى في فن الواو لأنه مرتبط إرتباطا تاريخيا وفنيا وثيقا بجنوب مصر الذى تحكمه ضوابط وتقاليد معينة وخاصة في قنا العتيقة ويتميزفن الواوالشعرى بتعبيراته المقتضبة المكثفة والمدهشة في اختزال المضامين و دمج الرؤى والتصورات والأفكار في صياغة مكتنزة ذات عمق وقوة في التصوير وإحكام وتأثير في صياغة الدلالة.
وفى ديوان ” عند السواقى” للشاعرالدقهلوى معوض حلمى ، المعروف بيننا بالفلاح الفصيح تعامل الفلاح الفصيح مع الشعر العامي باعتباره زاداً جمالياً أياً كان الشكل الذي اختاره فاتخذ من فن الواو القنائى دربا جديدا لكتاباته الشعرية فاعتمد اعتمادا كبيرا على الإيقاع الصوتى وبدت أغلب القصائد في ديوانه مع اختلاف بسيط في بعض التفاصيل تعبيراً جميلا عن روح الانتماء الحميم للوطن وللناس والأرض وتشكيلاً فنياً جميلا لعشقه العميق المتعدد الألوان للناس والوطن والحياه . متخذا اللهجة المصرية العامية الريفية طريقا لإعلان انحيازه التام للبسطاء العاميين للتعبير عن أحوالهم وأوجاعهم بلغة مألوفة ومعروفه لديهم برغم اختلاف اللهجة أحيانا كثيرة وذلك من خلال مربعات فن الواو المزركشة بالملامح الشعرية من إيقاع وصور فنية وإيحاءات رمزية ورؤى فلسفية وعوالم شعرية وقيم جمالية وأنساق ثقافية ترتكز على الأعراف المجتمعية والموروثات التراثية وفن الواو هو فن الصعيد الجوانى و فن قولي يعتمد اللغة الشعبية كأداة له مع أداة أخرى هي الإيقاع الموسيقي المحدد وتتجاوز لغته الشعبية حدود القواعد النحوية الإعرابية والصرفية.
وعنوان الديوان ( عند السواقى ) هو أول ما يستوقفنا في هذا الديوان فالعنوان الجميل مفعم بمعاني الانحياز إلى المكان كمعطى جمالي . فالساقية عند ( معوض حلمى ) لم تكن مجرد مكانا عاديا أوهينا بل كانت في نظره عالما ساحرا مُترامي الأطراف يمتدُّ على مساحة الحلم والأمل فمنحه السكينة والسلام الداخلي بالقدر الذي تمنحه فيه طبيعة المكان الريفى البسيط فكانت مصدرا مهما لوحي الإلهام وكان عنوان الديوان عامل جذب واستمالة للمتلقي ليتجاوب وجدانيا مع هذه الطبيعة الريفية وليتعاطف إنسانيا مع هذا الديوان وللساقية مكانا خاصا في قلوبنا جميعا فقد ارتبطت بريفنا المصرى الاصيل وصوت أنين الناي وسط أهازيج الفلاحين المنبعث من الحقول الخضراء من حولها مع لحظات الحب الجميلة تحت اشجارها الوارفة كما أنها مكانا أمنا للعبادة والصلاة لقربها من مصدر الماء كما ارتبط بئر الساقية في المخيلة الشعبية بالخرافة والمارد و الجنيات التى تسكن الساقية . وأعتقد أن العلاقة بين الساقية و( معوض حلمى ) قد خضعت لِحالة مستمرة ومتواصلة من الإعتياد الحسى الذي يألف أصغر تفاصيل المكان فخزنها بشكل تراكمي لا إرادي في سريرته فصارعند السواقى هذا المكان الخالد وسيلة يلجأ إليها مجبرا أحيانا كثيرة لأنها تمكنه من الانفصال عن العالم متى ما شاء .
وأما عناوين قصائد ديوان ” الفلاح الفصيح معوض حلمى” فالملمح الدلالي العام لها والذي يمكن ملاحظته من عناوين هذه القصائد هو اختزالها للهموم الحياتيه وللقضايا الإنسانية التي يتناولها الشاعر في ديوانه ( عند السواقى).
فقصائده (بيوت وبيوت – ولايعيب المرا – دقيق فينو – هادى البسيطة – شعب سيما وقيمة ) كلها مربعات من فن الواو تفيض بمعاني ألام ومرار المعاناة الحياتية والمكابدة التي نعيشها والضغوط الحياتية ومتطلباتها التى صارت في أحيان كثيرة لا تحتمل.
وأما قصائده ( أهاتى – يشفى غليلك – قايد وجيجة – كلامك دبحنى – الندل – دستور – بلا اوزار- الكل شاحن ) فهى مربعات من فن الواو تركها لروحه تتهجاها على مهل بأبجدية الحب ومفردات الحياة والناس باختلاف معادنهم وكان للخائن و للندل فيها نصيبا كبيرا من المربعات حيث قال عنهما.
سابع أهاتى باعدد / على كل خاين وقاسى / في تعبى قاعد ممدد / دق الوتايد في راسى / في الشده وحده يغيتك / صاحبك ويبل ريقك / والندل لوفات بغيطك / هيحس زرعك بضيق / الندل طول عمره واطى/رباه ابوه ع المذله / يشبه حامول المواطى / وجوده في الأرض عله / الندل هايغير ويزعل / ويقول ياحظه يابخته / إضحك ف وشه ماتزعل / تلقاك بضحك لبخته.
وفيها تظهرشاعريته ففلاحنا الفصيح شاعرجميل على الفطرة مطبوع و صادق في مشاعره و أحاسيسه و يكتب مربعاته معبرا عن كل المواقف وفى كل المواقف وفي أغلب الحالات يكون منطويا على كل معاني الموهبة العفوية والإلهام الفطري فوجد ضالته في اللذة في كتابة هذه المربعات الذى أشعل نارها من شرارة أحاسيسه ومعاناته وصولا إلى عالم الإثارة الدهشة وكان الصدق في التعبير عن الإحساس هو أساس الطبع الذي كتب عليه مربعاته من فن الواو .
وأما قصائده ( عند السواقى – دخلت قلبى – ماشية البنية ) فهى مربعات رقراقة عذبة شجية توحي بتجربة العشق التى عاشها أويعيشها وتتردد فيها أصداء الإحساس بالنفي والإغتراب في جنباتها كما يظهر غلبة مشاعر اليأس على الشاعر من خلال قوله .
دخلت قلبى وفتحته / بعد اما جرب وتاب / طب ليه بغدرك جرحته / سقيته مر الغياب
وهو قول يدل على إحباط شديد ويأس قاتل وعلى الرغم من ذلك يعود مره أخرى فيؤكد من جديد على الوفاق والسكينة وأن العشق فيه مرارة ونكد وألم وتعب وحسرات إلا أنه مستعذب عند العاشق وقد عبر عن ذلك بقوله بقوله .
دخلت قلبى وطاب لك / قمت انت بادره بوفاق / طابت جروحه وطابلك / قام رق تانى وراق، وقد وظف فيها الشاعر اللعب الحر على المتقابلات لنقل إحساسه بحدة المفارقات في مربعاته الشعرية وهذا يذكرنى بوصف ( أفلاطون ) للعشق وحالة العاشق بأنه من عشق عند العرب فلم ينحل جسمه ولم يطل سقمه وتباين أفكاره ويزداد سهره فهذا يعود إلى فساد الطبع .
وقبل أن نتحدث عن الجناس في مربعات ( الفلاح الفصيح معوض حلمى ) كان لزاما علينا أن نوضح أن الجناس هو محسن بديعي لفظي يكون عند اتفاق الكلمتين أو تشابههما في اللفظ واختلافهما في المعنى ويكثر استخدامه في الشعر وخاصة في مربعات الواو ولقد أجاد شاعرنا في استخدام الجناس بنوعيه الجناس اللفظى والجناس المعنوى متيقنا بدور الجناس في بيان المعنى بأشكال من المربعات يجمعها أصل واحد من اللغة وألوان مختلفة من اللهجة ومن أمثلة الجناس اللفظى غير التام عنده قوله: والدنيا كما محن نانسى /ابو قصر ترفع فنارو /بالليل يعيشها رومانسى / والصبح تنفخ في نارو / وقد اختلف اللفظان المتجانسان في عدد الحروف و ترتيبها وهيئتها و نوعها / نانسى – رومانسى / فنارو- نارو / ومع ذلك لم يدفع بسهولة معنى الكلمات من أجل الحصول على هذه المتعة اللفظية بتطابق حروف الكلمة الأخيرة من كل سطربل حملت كلماته النصح و الحكمة والمفارقة مجتهدا بها في مسألة وضوح المعنى للمتلقى.
الشاعر محمد الشربيني يكتب: أَوَّلُ القصيدةِ..كُفْرٌ!!
وأما الجناس التام فقد ظهر جليا في قوله. / دنيا وغاويها شبكها / بطمعها صايده الخلايق / ع الكل فارده شبكها / شقينا منها الخلايق / وقد اتفق فيه اللفظان في نوع الحروف و هيئتها الحاصلة من الحركات والسكنات وترتيبها شبه المتقارب / شبكها – شبكها / و( شبكها ) الأولى تعنى تعنى الشبك أى خاض أو التئم و( شبكها ) الثانية تعنى الشبكة أى المصيدة و ( الخلايق ) الأولى تعنى الناس و ( الخلايق ) الثانية تعنى الملابس .
وأما الجناس المعنوى الذى يطلق عليه أحيانا (جناس الإشارة ) وأحيانا أخرى ( التورية ) فقد ظهر في قوله .
/تانى أهاتى بسلم / الرزق مكتوب في لوحى / يارب وانت المسلم / ع الحق تقبضها روحى / وفيه أتى ( الفلاح الفصيح معوض حلمى ) بلفظ له معنى قريب في حين كان المعنى بعيد وهذا جميل في حد ذاته وسر جماله يكمن في أنه يثير الشعور بإحداث حركة ذهنية جميلة من خلال انتقال الذهن من المعنى القريب إلى المعنى البعيد كما فيها استغلال لثراء اللغة في دلالات الألفاظ .
ولأن مربعات الواو تعتمد في الأساس وبشكل كبير على اللهجة المحلية لما فيها من جماليات كثيرة فقديرى البعض منا أنه من الصعب على شعراء شمال مصر ودلتاها الكتابه في هذا الجنس الأدبى القنائى العتيق وأنا أرفض ذلك تماما ليس لأننى شاعرا من شعراء الواو ولكن لكونى مهتما اهتماما شديدا بهذا الفن السحرى المدهش.
ومع اقتراض ( معوض حلمى ) للهجة الجنوبية كتاباته وعدم التسليم للهجة الدقهلوية بشكل أساسى في مربعاته ومع فكرة أن بعض الأمكنة عادية وتكاد أن تكون مهمشة كان اقترابه من تلك الأمكنة فبث فيها الحياة بمربعاته واستطاع أن يوظف اللهجة السنبلاوينية الدقهلوية بصورة جميلة في مربعاته بحيث يرتقي بها ويرفع من قيمتها متأثرا بالمفردات والاشتقاقات من اللهجة الجنوبية فالمكان من وجهة نظرى مجرد عامل من مجموعة عوامل الحياة بالنسبة للشعراء ومن الممكن أن لا يكون ذا تأثير مباشرعلى الشاعر طالما أن الشاعركائن إجتماعى مغترب ومنفى.
وبعد قراءة هذا الديوان يتضح لنا أنه تجربة مهمة في المشهد الحالى للشعر العامى بالدقهلية خاصة مع ندرة شعراء الواو في الدقهلية وقد حاول ( الفلاح الفصيح معوض حلمى ) من خلاله أن يحفر لنفسه مجرى إبداعى يخصه ويميزه حاملا العديد من الرؤى الذاتيه مازجا بين بين ما هو شخصى وما هو عام.
اقرأ ايضا:
وحيد راغب يكتب: الدبلوماسية والشعر