قراءة في المجموعة القصصية “ليتها ابنتي” لمنى ياسين بقلم الكاتب محمد سمير رجب
في الكتابة الإبداعية ثمة طريقان يمكن أن يسلكهما الكاتب، الأولى: طرح فرضية معينة يتتبعها الكاتب، يغوص فيها، يختبرها، يستكشف أبعادها ليفهمها، أما الثانية: عرض فكرة ما، يفهمها الكاتب مسبقًا، يدرك أسبابها وبواعثها وإشكالاتها الملتبسة مستخدمًا عناصر السرد والكتابة الإبداعية لتجسيد الفكرة أو المشكلة في قالب أدبي.
الأول: يحاول الوصول إلى الحقيقة أو أجزاء منها، أما الثاني: فهو وصل بالفعل للحقيقة أو أجزاء منها. الأول يبحث، أما الثاني، فقد انتهى من البحث سلفًا.
قراءة في المجموعة القصصية “ليتها ابنتي”
تنتمي الكاتبة “منى ياسين” إلى النوع الثاني، فهي تمتلك رؤية واضحة ومحددة للعالم بشكل عام، والعلاقات الإنسانية بشكل خاص، وعلاقات الآباء بالأبناء – كما في هذه المجموعة – بشكل حصري.
أما الحقيقة التي تحاول تجسيدها، فهي حقيقة نفسية أسس لها علماء النفس في مئة عام أو يزيد، وهي: لا شيء يُنْسى، كل ما تختزن النفس البشرية يبقى بداخلها مكبوتًا، من أول يوم وحتى النهاية.
وأما النتائج التي تترتب على هذه الحقيقة فهي: الانفجار، كما في القصة الأولى “أنا القاتل” التي تقرر الابنة فيها “الانتحار” جراء سوء معاملة الأب وتجاهله التام والمستمر لها، أو الانهزام، كما في القصة الثالثة “وأد لحن” والتي ترى فيها الساردة نجاح ابنة عمها وموت أحلامها في كنف ورعاية أبيها وعمها، أو التعويض، كما في قصة “إعجاز” حيث تجد البطلة خلاصها في زيجة تعوضها خسائرها النفسية الكثيرة. يظهر هنا التعويض بشكل إيجابي، لكن في قصة “دنس الثوب الأبيض” يظهر التعويض السلبي حيث تجد “زينة” نفسها متورطة في علاقة سحاقية مع زميلتها “سهيلة” تحت ضغط الوحدة و إهمال العم وغياب الأب.
وتتأكد فكرة التعويض هذه بأول جملة بعد الإهداء التي تقول فيها الكاتبة: “ابنتك، نبتتك، إن لم تروها؛ تسولت سقياها”.
أما في قصة “مصاب القلب” فنجد الإنكار ورفض الواقع جليًا في تلك المرأة المطلقة، التي ترسم في خيالها أنها تذهب بابنتها الوحيدة للطبيب كي يعالجها، فنفاجأ في النهاية أن ما تحمله بين ذراعيها ليس أكثر من دمية بلاستيكية.
وفي قصة “ليتها ابنتي” تلجأ “رانسي” ابنة صديق الساردة للهروب من الحياة المنغلقة التي تعيشها مع أبيها. كما نجد الإزاحة في قصة “نزهة” حين تقترب الأم من الوقوع في نفس الخطأ الذي ارتكبته أمها معها ولكن مع ابنتها، لكنها تمسك، تأخذ نفسًا عميقًا وتحاول تغيير ضفة التعامل مع الابنة المسكينة.
هذه إذن الحقيقة التي تعرضها الكاتبة، وتلك نتائجها الوخيمة التي تمتد وتتربع بالكامل على شبكة أيام أبطالها، فيظلوا للأبد يعانون وخزات قديمة تتجدد باستمرار في أفعالهم و تفاعلاتهم بلا وعي.
ورغم أنها لا تعرض الحلول بشكل مباشر، فالأدب ليس مجالًا للمباشرة والوعظ والإرشاد المجاني، فإنها تقدم الحلول بشكل فني ذكي، وذلك بتقبيح الفعل الأول الذي نشأت منه المأساة، وتكبير قبحه بعدسة السرد مئة مرة كي تظهر بشاعته جلية أمام عيني القاريء وكي تحذر الجميع منه. كما تؤكد النتائج مرارًا وتكرارًا لتلتفت الأنظار إلى أبعاد المشكلة التي تؤتي ثمارها مباشرة، وإنما تنمو النتائج ببطء شديد ومع امتداد العمر ومرور الأيام، بحيث يمكن أن يتشكك البعض من أن فعلة هذه المرأة التي تجاوزت الأربعين من عمرها، مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بفعل محدد حدث لها وهي ابنة ستة أو سبعة أعوام ، أو ربما أقل.
و لا يمكننا نسيان إهداء المجموعة الذي تقول فيه:
إلى صاحب النطفة الذي كون المؤنسة
إلى صاحبة الرحم الذي وضعت فيه الغالية
بناتكم جسر لكم، فانظروا أنى تعبرون.
بهذا الإهداء ترمي الكاتبة بالمسؤولية كاملة على الأب والأم اللذين في غمرة النشوة، يبذران بذرة ثم لا يحسنان رعايتها وتربيتها وإنمائها نموًا سليمًا سويًا، وبعد قراءة في المجموعة القصصية “ليتها ابنتي” نرى أن الكاتبة وهي في المجموعة تؤكد على مفهوم “عقوق الأبناء” والذي لا يقل خطورة عن “عقوق الآباء”، فالواقع عندها أن الحياة ميزان دقيق، وأن كل إنسان بقدر ما له من حقوق بقدر ما عليه من واجبات، فإن لم تقم بواجبك على أتم وجه، فلا تحاول البحث عن حقوقك.
في النهاية، يمكننا القول بأننا أمام مجموعة قصصية تعالج إشكالية اجتماعية ذات أبعاد نفسية. فالكاتبة بقدر قربها واحتكاكها بفئات مختلفة من الناس، استطاعت أن تبلور رؤية شاملة تتناول بها مشكلة قائمة ومستمرة ولا تنتهي. فبعدسة عالم الاجتماع رأت، و بتحليلات عالم النفس شخصت، و بحساسية الأديب كتبت ونثرت ونشرت.
اقرأ ايضًا:
مشهد سينمائي يشعل النيران بين صفية العمري ومعالي زايد في فيلم ” أنا اللي قتلت الحنش”