الناقد أحمد فرحات يكتب: ترجمة الشعر

ترجمة الشعر مثلها مثل ترجمة القرآن الكريم إلى لغات مختلفة؛ فالذي يمكن ترجمته هو معاني القرآن، وليس القرآن نفسه، وعدم جواز ترجمة القرآن الكريم حرفيا إلى اللغات الأخرى لأن هذه اللغات لا تستوعب اللغة العربية وأساليبها من حقيقة ومجاز وكناية واستعارة، فاللغة الإنجليزية مثلا لايوجد بها تاء تأنيث كما في العربية.

إضافة إلى بعض المفردات العربية ليس لها مرادف في اللغة الإنجليزية، رغم المفاهيم الأساسية التي تحملها هذه المفردات، التي بدونها يظل النص- عند ترجمته- ناقصا. ولأن كتابة القرآن الكريم توقيفية يجب أن يكتب بالكيفية التي كتب بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز تغييرها ولو كان مكتوبا بالعربية وإملائها المتعارف عليه، فما بالك بغيرها من اللغات التي لا توجد بها بعض الحروف العربية أصلا.

الناقد أحمد فرحات يكتب: القديم والجديد

والشعر كيان مستقل له خلفيات ثقافية وتراثية مهمة، ولا يمكن تجاهلها أو الإغفال عنها، وإذا تُرجم الشعر فإنه يفقد كثيرا من رونقه وبريقه وأسراره، فلكل لغة أسرارها وبلاغتها الدفينة التي يعرفها ويتقنها متقنوها، فضلا عن الوزن الشعري الذي يختلف من لغة إلى أخرى. ثم إن دور المترجم في ترجمة الشعر لا يقتصر على النقل الحرفي للنص بل يتعدى ذلك إلى إسهامات أخرى لابد أن تتوافر فيه، كأن يكون شاعرا عارفا ببواطن اللغة المنقول منها وإليها النص الشعري.

ولهذا اتفقت الآراء على أن الشاعر خير من يترجم الشعر لأن ترجمة الشعر فن فريد، يتطلب احتشادا للمعرفة، والطاقات النفسية والفكرية والإبداعية للمترجم الذي يتقبل باختياره هذه العلاقة الشاقة الجميلة، فليس أمام مترجم الشعر أي مجال للتراخي أو الحل الوسط، فالشاعر الذي أبدع النص في لغته الأصلية لم يدخر جهدا في تثقيف قصائده.

وقد اعتذر د.طه حسين عن ترجمة قصيدة “المقبرة البحرية ” للفرنسي بول فاليري معتبرا ترجمته لها جناية كبيرة أو تورط في إثم عظيم، كما وصف عملية الترجمة من لغة أجنبية إلى اللغة العربية بأنها قتل للشعر، وتمثيل به، ومحو لآيات الجمال فيه. فقال:‏ “لعلك تسألني، أن أترجم لك القصيدة كلها أو بعضها، ولكني معتذر من ذلك لأمرين، أولهما أنني أجد في قراءة القصيدة لذة راقية قوية حقاً، ولكني لا أستطيع أن أقول إنني أفهمها على وجهها، وليس علي، من ذلك بأس، ما دام النقاد والأدباء الفرنسيون –وهم أعلم مني طبعاً بلغتهم وأدبهم- يختلفون في فهمها، إلى هذا الحد، وثانيهما أن بول فاليري نفسه يرى أن ترجمة الشعر إلى النثر، قتلٌ لهذا الشعر وتمثيل به ومحو لآيات الجمال فيه، وأعوذ بالله أن أقترف هذه الجناية أو أتورط في هذا الإثم”.‏

إننا لو نظرنا إلى القصائد المترجمة التي راقت للكثيرين في الشعر الإنساني العام، وكانت لها مكانة ليست بالهينة، فسنجد أن المترجم شاعر في المقام الأول، ولنأخذ رباعيات الخيام نموذجا لذلك، فمعظم من ترجمها من الفارسية إلى العربية، أو من الفارسية إلى الإنجليزية، كان شاعرا له ذوقه ونكهته الخاصة به،
ذلك لأن القضية تتمثل في اللفظ وليس المعنى، فاللفظ عليه المعول في جودة السبك، وتماسك الحبك، وضرب التصوير، وإقامة علاقات شديدة الخصوصية بين الكلمات كما ينص الجاحظ:

“والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي, والحضري والبدوي, والقروي والمدني وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء, وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير”، أي أنَّ الشعر يصنع بالكلمات وليس بالمعاني. وفكرة الجاحظ هذه هي ذاتها التي قال بها الشاعر الفرنسي مالارميه. إذ قال:”إنَّ الشعر لا يصنع من الأفكار، إنَّه مصنوع من الأشياء، أو من كلمات تدلُّ على الأشياء”.

وهاكم القصائد المترجمة إلى العربية .. تخيروا ما تشاؤون منها .. فإذا كان فيه من مزية فإن الفضل يرجع إلى الشاعر الذي ترجم إلى العربية، وليس الشاعر الأصلي المترجم منه النص.

ولنأخذ –مثلا-شاعرا كشكسبير .. فليس هناك أدنى شك في قدرته الشاعرية، وامتلاكه القدر الكبير لناصية الشعر الإنجليزي، فمن يستطيع أن يقول في شاعريته شيئا؟! أقول: إن هذا الشاعر الإنجليزي الكبير قد تُرجم شعره إلى لغات العالم أجمع، ومع ذلك فلا توجد قصيدة واحدة له ترقى إلى درجة التأثير الفذ في المتلقي العربي، لا لشيء إلا لعدم وجود شاعر كبير يستطيع أن يترجم له وينقل أفكاره في سبك شعري مميز كما حدث للخيام وإقبال.

الناقد أحمد فرحات يكتب: رواية اليوميات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى