روى عن ابن الأعرابي أنه أنشد لأبي تمام: وعاذل عذلته في عذله، فظن أني جاهل من جهله
على أنها لبعض العرب القدامى فاستحسنها، وأمر بعض أصحابه أن يكتبها (أي يوثقها) له، فلما فعل قال إنها لأبي تمام فقال : خرِّق خرّق.
أي قطعها قطعها..
هذا عن وضع القديم والجديد في الشعر فلا أفضلية للقديم بسبب قدمه، ولا مذمة للحديث بسبب حداثته ..
واليوم فإننا لا ننظر للقديم بعين الاعتبار وللحديث بعين الاحتقار. فالمعيار الزمني وحده قاصر عن تلبية متطلبات الجودة الفنية ومن ثم فإننا ننظر للحديث والقديم معا بمعيار واحد. هذا وقد خلا ديوان الشعر العربي القديم من شواعر العرب إلا ما ورد شزرا من الرواة والنقاد. ولشواعر العرب اليوم مكانة فنية ربما فاقت مكانة الرجل لصدق تعبيرهن وجودة نظمهن. ترى الشاعرة السعودية خديجة إبراهيم في المكان/جدة خلاصا وتطهيرا لأدران النفس مما يعلق بها من شوائب..
غنّ جدة
وأنت تعبر جدة
اهمس لشواطئها بوجدك
ولموجها بشغفك
اعزف على أنغامها
سمفونية عشقك..!
وأنت تعبر جدة
سلّم على رواشينها
وحواريها
وازدحام شوارعها
سلّم على العشاق فيها..!
وأنت تعبر جدة
ألق بذكرياتك
ووجعك في بحرها
اصحبها معك
خذها من تحت ذراعها
كعروس تجملت
لتزف لك
احك لها عن طفولتك وماضيك
عن زهرة البيلسان
التي خبأتها في صفحات كتابك
وأنت تعبر جدة
دوّن على نوافذها
حكاية الحلم
الذي ما فتئ يكتبك
وارسم في عينيها مواسمك
التي تشتهي ظلها وغنّ..
غنّ لعينيها
فهي تعشق من يفك شفرة موجها
ورقصة نوارسها
ويبدو أن جدة قد غدت مكانا لاستلهام شواعر العرب فنرى الشاعرة المصرية رانيا محمد تهفو روحها إليها، وتود لو تقطع المسافة من القاهرة إلى جدة سيرا على الأقدام لتنال حظوة قرب المكان وبث روح الحب والشغف، وتبوح بما اختلج في وجدانها لمحبوبها محبة صافية رقراقة عذبة، فتقول:
لَوْلا الملامةُ في هواكَ..
وشِقْوَتي..
لشَكَوْتُ للدَّيَّانِ في أيامي!!
وقَطَعتُ مِنْ مِصرَ المسافةَ كلَّها..
أُبدي خُضوعًا..
جاوَبَ اسْتِسلامي!!
فَلْتُخْبِروهُ بأنَّني سامحتُهُ..
ما عُدتُ أذكُرُ..
غَيْرَهُ..
بكلامي!!
أما الشاعرة خديجة السيد فإنها تطالعنا بصورة شعرية غارقة في الوهم.
يتسلل الوقت من جداره منهكة خطاه
تهرب منه الأسئلة
تحوم قربه قناديل مساء
يذوب في عينيه ترتيل وجع
ستائر الذكرى تنوء بسنابل الضوء
الشاشة الخرساء لا تمل الثرثرة
وخاتم النسيان في إبهامها يصيح
لا تفتكوا بالذاكرة
” كامل العدد” قصيدة جديدة للشاعر أسامة مهران
بعد تأمل (جدار الوقت/ ترتيل وجع/سنابل الضوء/الشاشة الخرساء .. الثرثرة/ خاتم النسيان/..) تجد أن الشاعرة اعتمدت المواءمة الإيحائية بين الكلمات، أنها اعتمدت صداها ينسجم صوتيا لا دلاليا، من خلال ما تخلق الكلمة على الآخرى من انعكاس متبادل يعمل على توهج إشعاعها السحري، وهي بهذا تفقد القصيدة صلابتها التقليدية فلا تعود مرتكزة على المنطق أو الواقع بل تغدو ذات معين نفسي مترع بعبارات الفقد، ومعاناة الألم الناجم من ستائر الذكرى وخاتم النسيان. فالأبيات الشعرية مشحونة بشحونات عاطفية أججت لديها ذكرى ما ارتبطت بها عبر خاتم، وليال كانت محملة بسنابل الضوء، وافتقادها أشعل حنينا ولهيبا مقدسا.
فمن الواضح أن الشاعرة تكد ذاتها، وتعمل عقلها لاصطياد صورة شعرية لافتة من منابع بعيدة، فتارة تربط المحسوس بالمعنوي، أو المحسوس بقرينه المحسوس لتعود إلى طبع المنبع الشعري، ولا تتأثر بقشور الأشياء أو طلائها الخارجي فحسب. إن المحك الذي لا يحطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء. وإن كنت تلمح من وراء الحواس شعورا حيا ووجدانا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم، ونفحات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر الطبع القوي، والحقيقة الجوهرية.
لم يكن استحسان الشعر هنا هو المعيار الزمني بل معيار الجودة التي نعول عليها في نقدنا الحديث. وليس في مباشرة خديجة إبراهيم ورانيا محمد وغموض خديجة السيد حذر أو قلق يؤثر سلبا في النص الشعري.
اقرأ ايضا: