الشاعر محمد الشربيني يكتب: الجَرْيُ على خيول السخرية

لعلكَ يا قارئي الأكرمَ لم يَدُرْ بخاطرك أن تسأل نفسَك..مَنْ هذا الـ(مَرْبَعُ) الذي توعّده الشاعر الشهير “الفرزدق”وهدّده بالقتل صراحةً لاتلميحاً..؟!!ولولا سخريةُ منافسه في فنِّ النقائض الشاعر الشهير “جرير”من توعّد”الفرزدق” “مَرْبعاً”.

ما اشتهر هذا الـ”مَرْبعُ”ولا أتعبنا أنفسَنا، وكلَّفْناها مالا تطيق في البحث عنه،لكن البيت الساخر الذي قاله”جرير” -والحق يُقال-يغري بالبحث إذْ يقول:(زعم الفرزدق أنْ سيقتلُ مَربعًا/أبشرْ بطول سلامةٍ يا مَربعُ)تقول الروايات:إن هذا الـ”مَرْبعَ” وُجِد في زمن “الفرزدق”و “جرير”من بني “جعفر”بن “كلاب”، ،واسمه”وعوعة”!!

(ولعلك قارئي الأكرم لن تسخر من اسم صاحبنا أو لقبه فقد خلدته صفحات الأدب العربي خلافَ ما أنا أو أنت عليه الآن فقد أجد نفسي أو تجد نفسك متهماً مُخلّداً في ملفات الآداب الزوجية بمجرد أن تعلِّق على إبداع إحداهن بباقة وردٍ!!) وكان “مربع”راويةً لأشعار”جرير” دائمًا؛فيغتاظ”الفرزدق” وحَدَثَ أن”مربعاً” نَفَر بأبي “الفرزدق”وضربه، ويقال إن أبا”الفرزدق”مات جرَّاء العلة التي نجمتْ عن ذلك الاعتداء،فحلف “الفرزدق” ليقتلنَّه، فقال “جرير”حينئذ لـ”مربع”:(أبشر بطول سلامةٍ يا مربعُ)؛تكذيباً للفرزدق، وتهكُّماً من تهديده،وطمأنةً لراوية شعره أنه لن يموت إلا ميتة طبيعية..!!

إذن..قارئي الأكرم لم يعد لك عذرٌ في الارتكان إلى عدم معرفتك”مَرْبَعاً”هذا الذى هدده الشاعر الأموى “الفرزدق”منذ حوالي أربعة عشر قرناً بالقتل، فيحتفظ باسمه التاريخ،لا لأنه قُتِل، ولكن لأن خصمه الشاعر الأموى”جرير” ما كاد يتلقَّف تهديده حتى استهزإ مبشِّراً “مَرْبَعاً”هذا بطول العمر، طالما أن “الفرزدق” هو المهدِّد بالقتل؛ليجري هذا البيتُ مجرى الأمثال، وتردده الأفواه طيلة القرون التى تلت عَصْرَ “بني أمية” هازئين بمن يهدد بما لا يملك،ويتوعد بما لا يقدر، ويتعهد بما لا يطيق..!!

ولم تعدْ سخريةُ”جرير” الفاضحة للنيّات مقصورةً على “الفرزدق”؛فلقد صار لدينا مليون “جرير” يتهكمون من ذلك الصدام الورقي الذي نشب بين حفدة”كسرى” وحفدة “السامري”،لعل المنتشين بطبول التهديد الأجوف يدركون أن الاعتماد على غير قواهم لن يصل بهم إلى النصر، وأن وعود الآخرين ومواقفهم داخل الغرف المغلقة تكذبها مواقفهم يقول الله تعالى في سورة النور:(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ۖ قُل لَّا تُقْسِمُوا ۖ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)أى: وأقسم هؤلاء بالأيْمان الموثَّقة، بأنهم متى أمرهم الرسول-صلّى الله عليه وسلّم-بالخروج معه للجهاد ليخرجُنَّ سِراعاً تلبيةً لأمره

فيأمر الله-تبارك وتعالى- نبيه-صلّى الله عليه وسلّم- أن يرد عليهم ردَّ تهكُّمٍ من كذبهم فيقول:قُلْ لاتُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أى: قل لهم-أيها الرسول الكريم- على سبيل السخرية الفاضحة للنيّات والزجر،لا تقسموا على ما تقولون، فإن طاعتكم معروفٌ أمرها؛فهي طاعةٌ باللسان فقط والفعل يكذبها والله- تبارك وتعالى-مطَّلعٌ اطلاعاً تاماً على ظاهركم وباطنكم فلا يحتاج منكم إلى قَسَمٍ أو توكيدٍ.!!.

إن السخرية إحدى طرق التعبير التي نستعمل فيها ألفاظاً تقلب المعنى إلي عكس ما نقوله،قاصدين منها النقد أولاً ثم الإضحاك ثانياً،كل ذلك بطريقة غير مباشرة اعتماداً علي الإيحاء عن طريق الأسلوب وإلقاء الكلام بعكس ما يقال، وعلاقة السخرية بالفكاهة تتمثل في التقائهما في الطريقة؛فكل ما يضحك هو هزلٌ، ولكن لها قسمان: أحدهما ليس له غرض إلا الإضحاك وهو الفكاهة، وثانيهما غرضه السخرية لانتقاد الواقع، والسخرية بذلك فنٌ راقٍ معتمدٌ علي الرمز لتوضيح معناه،هادفٌ إلي الانتقاد البناء،محتاجٌ للذكاء وإعمال العقل،وهي ردُّ فعلٍ طبيعيٍ للمبدع العربي،إنه يتأمل ما يحيط به من نقائضَ بهدوءٍ، ويتحدث عنها بابتسامة هازئة،دون استخدام لفظٍ بذيءٍ، لكنه-أي المبدع العربي-قد يتخطَّى حدود الفكاهة وعدم تعمُّد الإيذاء إلى ماهو أشد..!!،إن الشعراء العرب-لاسيما شعراء العصر الحديث- مغرَمون بذلك الصنف من السخرية المُرَّةِ اللاذعة التي تجعلنا نضحك بمرارةٍ ونشعر بفداحة العيب،إنها السخرية المريرة الطعم القاسية اللذْع.

(سقطتْ”غرناطةُ”..للمرَّة الخمسين من أيدي العربْ!!/سقط التاريخ من أيدي العربْ!!/سقطتْ أعمدة الروح..وأفخاذ القبيلةْ/سقطت كلُّ مواويل البطولةْ..سقطتْ كل مواويل البطولةْ/سقطتْ “إشبيليًَةُ”..سقطتْ”
أنطاكيَّةُ”..سقطتْ”حطينٌ”من غير قتالٍ..سقطت “عمُّوريَّةُ”..سقطت”مريم” في أيدي الميليشيات..فما من رجلٍ ينقذ الرمز السماوي..ولا ثَمَّ رجولةْ…!!)

وتأتي قصيدة(المهرولون) للشاعر العربي”نزار قباني” منقوعة في آنية المرارة؛ إذْ كتبها عقب توقيع اتفاق “أوسلو”إذْ فوجئ معنا بطوابير الهرولة والانبطاح بل والتنازلات عن الكثير من الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني..!!،ولم يكن ذلك من قبيل اتفاق الأنداد.

جاءت قصيدة “المهرولون” المفتتحة بـ(سقطتْ آخر جدران الحياء)..!!بهذه السخرية الجارحة التي تصل إلي حد التهكُّم،نعم..إن”مصر” عقدتْ اتفاقية “كامب ديفيد”لكنه اتفاق الأنداد، فلم نفرط في حبة رملٍ واحدةٍ،والصهاينة يدركون أنها اتفاقية مكتوبة على ورقةٍ باليةٍ تستطيع”مصر” تمزيقها في طرفة عين،لقد اعتمد”نزار قباني” على استدعاء الموروث التاريخي بتفصيلاته المُشبَعَة بالندم،والمفجرة تيار المرارة في الحلوق، إن”غرناطة”ومثيلاتها سقطن للمرة الخمسين..!!صحيح أنها آخرُ ما سقطتْ.

من”الأندلس”..!!فلماذا لا يستدعي بقية المدن والحواضر للإيغال في التقريع النفسي؟!!ولماذا لا يستدعي بقية أيام العرب المزدانة بالنصر والتمكين مثل”عمورية”و”حطين” كي نشعر بفداحة الكارثة!!، ولماذا لا يستدعي الموروث الاجتماعي ممثَّلاً في مفردة”القبيلة”بما تحمله من مشاهد اشتعال الحروب لأتفه الأسباب فيما يراه العربي القديم ماسًاً بكرامته؟!ويوغل”نزار قباني”في استخدام المفردات القبلية ممثلة في”أفخاذ القبيلة” وهو تركيبٌ دالٌّ على إحدي الطبقات الاجتماعية في النسب فـ”الفخذ” بالنسبة للعربي القديم (نَفَرُهُ مِن حَيِّهِ الذين هم أَقرب عشيرته إِليه).

ولعل اشتهار “نزارقباني” باستخدام المفردات الجسدية في قصائد الغزل السبب في عدم فطنة الكثيرين لمدلول مفردة “الأفخاذ”بما يحمل من انعدام نجدة أقرب المحيطين بالمستغيث!! ولماذا لا يستدعي الموروث الديني ممثَّلاً في شخصية”مريم ابنة عمران “أم المسيح “عيسى بن مريم”عليه السلام بما للشخصية من ثِقلٍ ديني يستثير الحمية للجهاد عند المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء؟!! ومن دلالةٍ إنسانيةٍ تستثير الحماسة للانتقام دفاعاً عن الأم بصورةٍ عامة،لكن”نزار قباني”يأبى مغادرة الميدان وخيوله قد أُسْرجتْ إلا وقد أشبع رغبة سياطه من جَلْد ظهور العرب ووجوههم.

إن الشاعر العربي كلما أطال التأمل والتفكير في الواقع العربي بأحداثه ووقائعه المؤسفة،فإنه لا يملك إلا أن يشعر بالغُصَّة في حَلْقه،والغضب الشديد من عجْزه عن تغيير واقعه، فلا يجد بُدَّاً من اللجوء الي السخرية اللاذعة تخفيفاً من حِدًَة آلامه، يقول”جبران خليل جبران”:«هذا العالم..صعب وخائن ولا يطاق.يجب أن يمتلك الإنسان سلاح السخرية وسلاح القوة لكي يستطيع أن يحاربه حتى الموت)، لنختم مقالنا بهذا المقطع الصادم دون تعليقٍ..!!فالجريمة نكراء، والعدو لا أحدَ يشبهه في وضاعته أو نذالته: (لم يعد في يدنا
أندلسٌ واحدةٌ نملكها..

سرقوا الابواب..والحيطان.. والزوجات..والأولاد..
والزيتون..والزيت..وأحجار الشوارع!!/سرقوا”عيسى بن مريم”..وهو ما زال رضيعاً/سرقوا ذاكرة الليمون..والمشمش.. والنعناع منا..وقناديل الجوامعْ…!!)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى