أرواح تائهة
اعتكف جاسر في بيته عدة أشهر، يحاول استرجاع نفسه، لم يعد في مقدوره العودة من جديد لمزاولة عمله. وجه الغريب ما زال يلاحقه في نومه ويقظته. إنه العدم حيث سقط فيه ولا مجال لسلم أو يد تنقذه منه .
تلك الليلة لم تفارقه قط، يقود سيارته عائدًا إلى البيت، لم يكن وحده، صراخ وبكاء ولهاث في المقعد الخلفي، لم يرَ شيئا.
أوقف السيارة عدة مرات ليتفقد مصدر الصوت، وفي إحدى المرات كان سينقلب بسيارته مع كل تلك الحمولة التي اكتظت في الخلف.
وصل إلى المبنى حيث يسكن، وما إن أُقفل باب المصعد حتى بدأ المصعد كأرجوحة في مدينة ملاهٍ، تنطفئ الأنوار وتضيء، وماز الت الأصوات تلاحقه، بكاء وبكاء.
أرواح تائهة
وبات هذا كابوسه كل ليلة يصحو مختنقًا بعد أن ينكمش المصعد ويحشر بداخله مثل علبة سردين. اليوم استيقظ على غير عادته؛ فلم يراوده كابوسه مثل كل يوم، لم يكن في حال سيئة بعد ليلة مضنية. هل غادرته الكوابيس التي أصبحت ملازمة له؟
دخل الحمام، فرك وجهه بالصابون، لحيته طالت ويرغب بحلاقتها، يداه لا تكفان عن الارتجاف كلما أمسك أداة حادة، فيعدل عن فكرة الحلاقة، وشعره أيضا طالت أطرافه. نظر مجددًا إلى المرآة ليقفز وجه الغريب مرة أخرى أمامه، يبتسم له ابتسامة الانتصار أسنانه كأسنان ذئب فتكت لتوٍ بضحيتها، يشتمه سراج بقوة، يضرب المرآة، يبصق عليها ويغادر .
لا يعلم ما الوقت ولا التاريخ ولا اليوم، فالستائر منذ زمن طويل تنسدل على النوافذ. ستائر قاتمة مثل روحه، هل كان يعلم عندما اختار اللون الكحلي قبل سنة ليكون لونا للستائر أنها ستناسبه الآن؟ لا شمس تدخل البيت ولا هواء رائحة العفونة تسللت واحتلت البيت.
دخل إلى المطبخ ليعد فنجان قهوة. المطبخ في حال يرثى لها، بحث عن كوب نظيف فلم يجد، القذارة في كل مكان، الأرض لزجة، لا يعلم ما الذي سُكب عليها، ربما زيت أو بقايا طعام. راقب سربًا من النمل يتسلق قدم الطاولة ليحيط بفتات خبز يابس.
قطعة لحم نتنة فوق صحن قذر، وقد بدأت الديدان تنهشها، أمسك الصحن وألقاه كله في القمامة التي انبعثت منها رائحة لا تطاق، سحب الكيس الأسود من مكانه وألقاه خارج البيت، لاحظ أكوام الجرائد أمام عتبة منزله، حملها وألقاها في الكيس الأسود أيضًا، لن تكون هناك أخبار أسوأ من حياته الآن. دخل ليكمل إعداد قهوته.
الساعة الرابعة عصراً نظر إلى ساعة الحائط عندما أطلقت صرخة، لم يبالِ كثيرًا، فالوقت كان قاتله، والوقت يسير مثل سلحفاة الدقائق مثل دبيب نملٍ يخدر جسده وينخره مثل شجرة يابسة.
جلس على أريكته التلفاز صامت عابس بشاشة سوداء مكسورة بعد أن رماه بهاتفه الذي لم يكف عن الرنين .لم يسمح لأحد أن يقتحم عزلته، رفض كل الأيدي التي امتدت لمساعدته.
“أنا فلسطين وزوجي إسرائيل”..قصة قصيرة للكاتب حسين عبد العزيز
كره نظرات الشفقة من أصدقائه، وقولهم إن ما يمر به مجرد توتر بسبب العمل. كره أمه التي ملأت البيت برائحة البخور ذات ليلة لتبعد الأرواح، وكره حبيبته التي فرّت من الشقة بعد أن رأت الفزع يسكن عينيه.
عادت ضحكات الصغار تملأ بيته مجددًا.. وجوه لأطفال لا يعرفهم، صرخ بهم ليكفوا عن الضحك ويأمرهم أن يغادروا جميعا لكنّ الضحكات عادت من جديد، وبدأت الأحاديث بين الأطفال أرواح تائهة أكثر وضوحًا يهمسون له بحكاياتهم، حاول أن يصم أذنيه لكن الأصوات كانت تتحول إلى شخوص تتراكض حوله لتقتحم عزلته مثل كل ليلة.
يغمض عينيه، يتوسل إليهم أن يصمتوا، يعم الصمت ومن ثم تعود ضحكات الأطفال من جديد. أطفال بملامح مشوهة وكلما اقتربوا منه نزفوا دمًا يغطي منزله، يغطيه كله ليصرخ فزعًا فيختفي كل شيء، ومن ثم يعودون من جديد، وجه طفلة بلا ملامح يقترب منه.
تلك المرة الأولى التي تقترب منه إحداهن، تشكلت أمامه كما تتشكل قطع الفخار، منحوتة بعناية، بدت بنية اللون برائحة الطين، ثم انسكبت عليها الألوان. شعر كستنائي بجديلتين، ترتاحان على كتفيها الصغيرتين، عينان بلون العسل وثقب رصاصة في القلب .خطت خطوتين ووقفت أمامه، توسل إليها :
-لماذا لا ترحلين؟ ارحلي، خذيهم معك أرجوكِ!
تسأله: لماذا يا عمو؟
– لماذا ماذا؟
– أنت تعلم! لقد كنا هناك حوله نراقبه، كان سيغادر وكنا سنتحرر، أخبروك وقتها أن تدعه وشأنه، سمعناهم يرجونك ألا تفعلها، قالوا لك إنه لا يستحق الحياة ألم تفهم تلك الرسالة التي أعطاك إياها أبي هل تذكر ما كتبه لك؟
“ما هو الموت؟
هو أن تنام طويلًا بعد أن تُعدَّ لك الحياة على أصابعها كم رصاصة أصابت الرصيف خطأ
وما الحياة؟ هي تلك التي لا تخطئ هدفها حين تطلق عليك الرصاص”
-لم أرَ إلا الدم يغطي جسده، لم أرَ إلا الموت في عينيه، لعلني أرواح تائهة لم أفهم معنى الموت وقتها لم أكن أعلم إنه والموت شركاء.
لم يخطئ المشرط في انتزاع الرصاصتين ..فأنا بارع ويداي خبيرتان، سحبته من بين أسنان الموت، ببراعة جراح، نجا هو، وعلقت أنا بين الحياة والموت، لم أستطع أن أفعلها وأقول: قتلت هذا المجرم، قاتلكم بالخطأ!